|
بقلم / الكاتب: حامد سلمان
2021/06/30
|
|
|
|
|
|
|
|
القرن الإفريقي الجديد: أحلام الاباطرة وخيارات
الشعوب
|
|
|
مقدمة: يناقش هذا المقال، بشيء من التفصيل، الخلفيات
التأريخية للصراع السياسي والعسكري الجاري في إثيوبيا
عموما منذ صعود رئيس الوزراء أبي أحمد إلى سدة الحكم في
أثيوبيا، وبصفة خاصة الصراع الدامي الذي جرى ويجري في
إقليم التجراي بين الجيش الحكومي الإثيوبي والمليشيات
العرقية المساندة له في جانب والقوات الإقليمية التابعة
للجبهة الشعبية لتحرير تجراي في الجانب المقابل، كما
يتناول المقال، الأدوار السياسية والعسكرية والأمنية التي
تضطلع بها الأطراف المحلية والإقليمية الفاعلة في هذا
الصراع، بالإضافة إلى استشرافه مآلات هذا الصراع واحتمالات
امتداد نيرانه إلى خارج حدود الدولة الإثيوبية، وتأثيراته
المحتملة على دول الجوار، لا سيما السودان وإرتريا
الواقعتان في الجوار المباشر لإقليم التجراي، وربما
جمهورية مصر العربية التي تراقب نتائج الصراع وتأثيراته
المباشرة وغير المباشرة عليها من على البعد، كما يتطرق
المقال إلى الخيارات البديلة المفترضة والمحتملة للشعوب
والدول المعنية بتأثيرات هذا الصراع، وسيجد القارئ في
ثنايا هذا المقال، العناوين الفرعية التالية:
مفهوم القرن الإفريقي الجديد، المنطلقات
النظرية والمسوغات العملية.
السلالة الجديدة من أباطرة الحبشة:
أبي أحمد، رجل المرحلة أم أداتها؟
مجتمع دولي عاجز، فرصة تأريخية للأباطرة:
التجراي: ثمن الصوابية السياسية.
السودان: هل لا زال يملك العزيمة لتحطيم أحلام الأباطرة؟
القلعة المستحيلة: في مواجهة الأطماع
التوسعية مجددا:
العام 2021، هل سيشهد صعود أم انهيار مشروع
الأباطرة الجدد:
دولة الخطيئة الإفريقية:
لا تزال الدول الأوروبية تعاني من وصمة
العار التاريخي التي تطاردها بسبب ماضيها الاستعماري
وسلوكها وممارساتها ضد الدول والشعوب الإفريقية وشعوب
العالم الثالث، فالاستعمار، بمعناه استغلال الشعوب، يعد
خطيئة تأريخية بكل المقاييس، وليس من قبيل التجني ولا
الإجحاف أن نطلق على الدولة الأثيوبية الحديثة التي تأسست
في العام 1855م، دولة الخطيئة الإفريقية، كونها تأسست
وتوسعت من خلال الغزو والعدوان المحض، من قبل مجموعة عرقية
إفريقية على بقية الشعوب والمجتمعات والأعراق الإفريقية
المجاورة، منتهجة عقيدة سياسية قوامها تمجيد الحرب وعبادة
القائد الأقوى، ونسج الأساطير والخرافات حول قدراته
الخارقة، وإسبال ألقاب العظمة على شخصيته من قَبِيل ملك
الملوك وسليل الأنبياء وقاهر العالمين (ألم سجد- الملك
الذي أسجد العالم).
لقد كان الدافع الأساسي لنشوء وتوسع ما يعرف اليوم بالدولة
الإثيوبية يعتمد على خليط من النزعة القومية الاستعلائية
للسلالة الحبشية بشقيها الأمحرا والتجراي (33% من مجموع
عدد السكان البالغ 116 مليون في إثيوبيا) بالإضافة إلى
التعصب المذهبي للكنيسة التوحيدية الأرثوذكسية، والكراهية
القومية والنظرة الدونية للمجتمعات المجاورة، مع السعي
الدائب والمستمر لبسط الهيمنة على تلك الشعوب واخضاعها
بالقوة.
إذً، إثيوبيا هي دولة الخطيئة المحلية الإفريقية، لأنها
تمثل الثمار المرة لحملات التوسع الدموية التي خاضها
الأباطرة الأحباش، ومن الشواهد الحية على حقيقة هذا الواقع
المرير، أن عاصمة الدولة الإثيوبية الحالية، أديس أبابا،
أسسها الإمبراطور منيليك الثاني عام 1892م فوق أرض محتلة
استولت عليها ميلشياته المسلحة وانتزعتها من سكانها
الأصليين (الأرومو) ثم قام الإمبراطور منيليك ببناء قصره
عليها، وأعلنها عاصمة لإمبراطوريته، بعد أن قام بتعميدها
باسم جديد هو (أديس أببا) وتعني "الزهرة الجديدة" بلغة
قومه الأمحرا وليس بلغة أصحاب الأرض الأصليين الذين كانوا
يعرفونها باسمها المحلي "فِنْفِنِّي" قبل انتزاعها منهم.
وعلى عكس جميع الدول الإفريقية، التي تأسست نتيجة لسباق
الحيازة الذي خاضته قوى الاستعمار
الأوربي على أفريقيا، فإن دولة إثيوبيا الحديثة خرجت من
رحم الطغيان العرقي المحلي المتمثل في الروح القومية
التوسعية لأباطرة الحبشة، والتي لا يزال شبحها يطارد
الشعوب الإثيوبية، ويَحُول بينها وبين الاستقرار السياسي
والاجتماعي والاقتصادي، فكلما وجدت النخبة السياسية
الحاكمة في أثيوبيا أنها امتلكت قدرا معقولا من القوة
العسكرية والاقتصادية، يتحول تفكيرها تلقائيا إلى استخدام
تلك القوة لنزع ما في يد الشعوب المجاورة لإشباع نهم
الهيمنة والتسلط على حساب تلك الشعوب، وكلما خسرت إثيوبيا
حربا وتجرعت كؤوس الهزيمة انكفأت على نفسها تلعق جراحها في
انتظار سانحة تأريخية أخرى، ولا يمكن لإثيوبيا في ظل هذه
العقلية السياسية أن تخرج من دوامة الموت والفقر
والمجاعات، وستظل تهدر الفرصة التأريخية تلو الأخرى في نفق
الحروب التوسعية الخاسرة.
لم تتمدد سلطة أي من الأباطرة الأحباش في
التأريخ الإثيوبي الحديث من خلال بسط العدل وضمان الأمن
والاستقرار وإرساء قيم العدالة الاجتماعية وحسن الجوار،
ولهذا نجد أن الشعوب المجاورة لعرقيتي الأمحرا والتجراي
اكتسبت حاسة قوية تجاه أي محاولة لإحياء الطموحات التوسعية
للحبشة، كونها لا تعني لهذه المجتمعات شيئا سوى الحرق
والقتل والاغتصاب والدمار الاقتصادي وسلب الممتلكات،
ومازالت الندوب والجراح الاجتماعية التي خلفتها حملات
الهيمنة لأباطرة الأمحرا بشكل خاص حاضرة في أوساط
المجتمعات المجاورة وبشكل أكثر خصوصية لدى شعب الأرومو
وشعوب الجنوب الإثيوبي الجامبيلا والجموز وبَنِي شَنقول
وولايتا وجُراجي وهدِيّا وسِلْطِي وغيرهم، بالإضافة إلى
الصوماليين والإرتريين خارج حدود الدولة الإثيوبية.
والفرق هنا، أن الاستعمار الأوروبي لإفريقيا ربما ترك
اختلالات اجتماعية وفروقات تتعلق بقضايا تنمية الموارد
البشرية ومستويات التعليم بين المجتمعات المحلية عموما،
ولكنه في كل الأحوال لا يمكن أن يرتقي إلى حجم الضرر
والندوب الاجتماعية والآثار النفسية الغائرة التي تركتها
ممارسات أباطرة الأمحرا خصوصا ضد الشعوب المجاورة في حقبة
الاضطهاد القومي المسمى " زَمِنِي مَسَافِنْتْ" بمعنى "زمن
الأمراء" في تأريخ إثيوبيا.
وعلى سبيل الاستدلال والمقارنة، نأخذ
السودان المجاور كنموذج لكيفية تشكل الدولة الوطنية
الحديثة في إفريقيا عموما، وسنجد أن الدولة السودانية
الحديثة نشأت نتيجة لعامل خارجي تمثل في توسع الدولة
العثمانية من مصر، وسقوط مملكة سنار عام 1821م، وانطلاقا
من هذا التكوين الأولي، توسعت الرقعة الجغرافية للسودان
حينا، وتقلصت حينا آخر إلى أن استقرت على حدودها الحالية
وفق اتفاقيات الحدود التي وقعها الإنجليز مع القوى
الاستعمارية النظيرة (فرنسا وإيطاليا) بجانب قوة الاستعمار
محلي المَنْبت، متمثلة في أمراء الحرب من قومية الأمحرا
والتجراي في الجانب الإثيوبي من الحدود السودانية، بمعنى
أن الدولة السودانية الحديثة لم تنشأ نتيجة لنزعة التوسع
والهيمنة القومية من أحد المكونات الاجتماعية الداخلية
للسودان، بل على أساس المناطق التي وصل إليها النفوذ
البريطاني دون أي اعتبار للشعوب والمجتمعات التي دخلت في
حيز ذلك النفوذ، ليتم إعلانها دولة مستقلة لاحقا وعلى أساس
الحدود التي رسمها المستعمر وبالمساوات في المواطنة التي
أقرها المستعمر أيضا، لتكون القاسم المشترك بين جميع
المكونات الاجتماعية للسودان، من حيث المبدأ على الأقل.
وعلى ذات المبدأ تأسست دولة إرتريا الحديثة
كإيالة تركية عثمانية عام 1818م ضمن حملة التوسع العثماني
نحو الساحل الغربي للبحر الأحمر انطلاقا من قلعة جدة،
وتوسعت الإيالة العثمانية حتى وصلت إلى زيلع في الصومال
وحتى إقليم هرر، وبينما كانت مصر والحبشة تتنازعان حول
ملكية إرتريا بعد ضعف التواجد العثماني عليها تسلل إليها
الطليان خلسة وسيطروا عليها تدريجيا حتى تم إعلانها رسميا
مستعمرة إيطالية تحت إسم "لا كولونيا إرتريا" بتأريخ 1/1/
1890م. وتتشارك جميع الدول الإفريقية على مبدأ العامل
الخارجي في تأسيسها باستثناء إثيوبيا التي أسستها حملات
التوسع والهيمنة المحلية ذات الدوافع العرقية.
ومهما قيل عن النخبة السياسية الحاكمة في
السودان، من فساد إداري واستغلال نفوذ ومحاولة احتكار
السلطة، فإن الحقيقة التي يمكن أن تكون محل اجماع لمعظم
المراقبين هي أن النخبة السياسية الحاكمة في السودان لم
تعكس طوال تأريخها طموحات توسعية موجهة للخارج تهدف إلى
السيطرة على أراضٍ تابعة للدول والشعوب المجاورة، بعكس ما
هو عليه الحال بالنسبة للعقلية الإمبراطورية المهيمنة على
إثيوبيا، والتي يحلم فيها راعي الغنم في قوندر وهو على بعد
مئات الكيلومترات من موانئ إرتريا (باضع وعصب) بأن يصبح
ضابطا في جيش الإمبراطور، لعل ذلك يمنحه فرصة العمر
بالاستيلاء على تلك الموانئ والحصول على منزل فخم على ساحل
البحر الأحمر، هذا حلم الراعي البسيط في إقليم الأمحرا،
فما بالك بأحلام ضباط الجيش الفعليين وقطاع الطرق ولصوص
المواشي المحترفين، أحلام توسعية أكبر بلا شك.
من بين كل الثوار، وأشباه الثوار، ورفقاء
السلاح، وحتى رؤساء الدول الذين عاصروه، تميز أسياس أفورقي
ديكتاتور إرتريا الحالي، بامتلاك أدوات التفكير
الإستراتيجي بعيدة المدى، وبالإضافة إلى ذلك تميز أفورقي
بالطموحات الشخصية التي لا تحدها حدود، كما تميز بالجبن
الشخصي الشديد الذي مكنه من الفرار الدائم عن المواجهة
واللجوء المستمر إلى غرس خنجر الخيانة على ظهور أعدائه وهم
في غفلة من أمرهم.
لقد عشَّشَتْ فكرة تربع أفورقي على عرش
دولة كبرى زمنا طويلا في مخيلته، فمثلا، بعد تحطيم الثوار
الإرتريين أسطورة قيادة الفرقة العسكرية الشمالية للجيش
الإثيوبي ( نادو إز) في معركة تحرير أفْعَبَتْ التأريخية
في مارس من العام 1988م، كان تفكير رفقاء أفورقي في قيادة
الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا منحصرا حول التخطيط
العملياتي للمرحلة التالية، وهي تحرير المدن الرئيسية (كرن
وباضع وأسمرا) من قبضة الجيش الإثيوبي وإعلان استقلال
إرتريا، في حين أن أسياس أفورقي كان يتفاوض سرا مع قيادات
الجيش الإثيوبي حول إمكانية منحه منصبا مرموقا في الحكومة
الإثيوبية مقابل تخلي الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا عن
فكرة الاستقلال.
بالحسابات العادية، كان أفورقي يدرك أن
إرتريا حتى لو انتصرت في الحرب على إثيوبيا وأعلنت
استقلالها، فإن مصيرها في أحسن الأحوال، هو أن تكون دولة
عادية في المنطقة كغيرها من الدول الكثيرة، بالنظر إلى
محدودية إمكانياتها البشرية (3 إلى 4 ملايين نسمة)
وتأريخها كمستعمرة قديمة تم تجميع خريطتها السياسية حسب
أهواء القوى الاستعمارية المتعاقبة، مما يفقدها عامل أساسي
من عوامل بناء الأمم "المصادمة الشريرة" وهو عامل العصبية
القومية، إذْ أن مكوناتها الاجتماعية تنتمي إلى ثلاث
مجموعات رئيسية من حيث التكوين الثقافي والخلفية
التأريخية، ومن هنا فإن أفورقي وجد أن الدولة الإرترية لا
يمكن بأي حال من الأحوال أن تلبي طموحاته الإمبراطورية
والخيار البديل لتحقيق طموحات أفورقي كان
في بدايته يتمثل في العمل مع جبهة تحرير التجراي للاستحواذ
على القرار السيادي للدولة الإثيوبية ومن ثم إلحاق إرتريا
بإثيوبيا على شكل اتحاد كونفدرالي، وقد تم الإعلان عن هذا
التوجه في حينه، إلا أن التفاصيل التي اقترحها أفورقي
لتحقيق ذلك، تم رفضها من قبل القيادة السياسية لجبهة تحرير
تجراي، متمثلة حينها في الراحل ملس زيناوي، وهو ما فتح باب
الكراهية والعداء بين الطرفين وأدى إلى اندلاع ما سمي
بالحرب الحدودية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى
والملايين من المعاقين والنازحين واللاجئين من الطرفين.
وهكذا، تعرضت الطموحات الإمبراطورية
لأسياس أفورقي لانتكاسة كبيرة في بدايتها، لكنه لم يستسلم،
وإنما لجأ إلى خيار آخر تلخص في ضرورة تدمير فكرة إرتريا
"كدولة قابلة للحياة" من خلال الإبادة الصامتة لشعبها أو
تهجيره إلى خارج البلاد وصهر ما تبقى منه في ثقافة واحدة
لتحويل إرتريا تدريجيا إلى دولة سيادية لعصبية عرقية
واحدة، بالتوازي مع حرمان شعبها عموما من أي فرصة للنهوض
بذاته، وتمهيدها لتكون لقمة سائغة يسهل ابتلاعها من قبل
إثيوبيا عندما يحين الوقت لذلك مستقبلا.
ولمقايسة مستوى التدمير الذي ألحقه إسياس
أفورقي بالشعب الإرتري خلال العقود الثلاثة الماضية من
حكمه، يمكننا العودة إلى مراجعة عدد السكان في المدن
والقرى الإرترية بُعيد استقلال إرتريا في العام 1996م،
ومقارنة ذلك بعدد السكان في هذا العام 2020م، الحقيقة
الصادمة هي أننا سنجد أن مدينة باضع (مصوع) مثلا، كانت
مدينة واعدة تضج بالحياة، بعدد سكان كان يقارب النصف مليون
نسمة، بينما تقلص عدد سكانها اليوم إلى 23 ألف نسمة فقط،
معظمهم ليسوا من سكانها الأصليين، وهذا ينطبق على كل المدن
والقرى في إرتريا تقريبا، إن لم يكن هذا تطهير عرقي ممنهج
وإبادة بشرية صامتة فماذا يمكن أن نسميه؟
أما مفهوم القرن الإفريقي الجديد الذي يبشر
به أسياس أفورقي في الوقت الراهن عبر أجهزته الدعائية، تحت
مسمى "كونفدرالية القرن الإفريقي" فليس إلا فكرة مسروقة من
أحاديث الدبلوماسي الأمريكي السابق هيرمن جي كوهين الذي
حذر إرتريا وإثيوبيا قبل أشهر قليلة فقط من صعود أبي أحمد
إلى كرسي السلطة في إثيوبيا بأن الساحل الغربي للبحر
الأحمر عرضة لتهديد الجماعات الإسلامية المتطرفة، في تحريض
واضح للدولتين لتدارك الأمر بإعادة العلاقة بينهما ومن ثم
العمل معا لضمان أمن البحر الأحمر وقطع الطريق على محاولات
تحول البحر الأحمر إلى مرتع للأنظمة العربية "
الديكتاتورية" أو الجماعات الإسلامية المتطرفة، كل هذا على
الرغم من غياب أي شواهد على وجود جماعات إسلامية متطرفة في
الساحل الغربي للبحر الأحمر.
فكرة السيد كوهين أعادت طموحات أفورقي إلى
الحياة، وبدأ بتحريك وفوده الديبلوماسية السرية والعلنية
إلى مختلف الجهات لتسويق سلعته القديمة بعرضها في ثوب جديد
هو " القرن الإفريقي الجديد" أو "كونفدرالية دول القرن
الإفريقي" لتسويغ نظريته الإمبراطورية التوسعية والتي
ترتكز على مبررات تتسم في جوهرها بالهشاشة الشديدة، وإن
بدت عكس ذلك في ظاهرها، كونها تتضارب مع سيادة الدول وحقوق
الشعوب والمجتمعات ومصالحها الحيوية، ويمكن تلخيص المبررات
التي يسوقها أفورقي لتحقيق طموحاته التوسعية في النقاط
التالية:
أن إثيوبيا دولة إقليمية كبيرة، لا تختلف
في حجمها ولا في تأريخها عن الدول الإقليمية الوازنة مثل
تركيا ومصر وإيران، ومن الحيف الإستراتيجي إجبارها على
الاستسلام لأقدار الجغرافيا السياسية وإخضاعها بالقانون
الدولي للقبول بالعيش في عزلة بين جبال الهضبة الإثيوبية،
وعليه، فإن على إثيوبيا تصحيح تموضعها الإستراتيجي اليوم
وليس غدا، لأن كافة الظروف مهيأة لتحقيق ذلك، وإذا فرطت
إثيوبيا في هذه الفرصة التأريخية، فربما لن تحصل عليها
أبدًا، فإثيوبيا بتاريخها الإمبراطوري وبثقلها السكاني
وخلفيتها الثقافية والدينية تستحق أن تكون شريكا فاعلا
ومؤثرا في الأمن الإقليمي، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا
بتمكينها من الاستحواذ على كل أو معظم السواحل الغربية
للبحر الأحمر.
كما تقتضي الضرورة الإستراتيجية أن تضع
إثيوبيا يدها على الموانئ المطلة على البحر الأحمر
والأراضي الزراعية الواسعة في شرق السودان وربط كل ذلك
بإثيوبيا عبر إنشاء طريق استراتيجي يمر بإقليم الأمحرا عبر
قوندر وبحردار وصولا إلى أديس أبابا لضمان الاستقرار
والنمو الاقتصادي للإمبراطورية الإثيوبية، لأن إثيوبيا
بالرغم من وفرة المياه فيها إلا أنها تعاني من شح قاتل في
السهول والأراضي المنبسطة التي تصلح لإنشاء المشاريع
الزراعية الكبرى
ضرورة الاقتراب الميداني من مصر، بعد تصنيفها في خانة
العدو الإستراتيجي رقم (1) لإثيوبيا بغض النظر عن طبيعة
النظام السياسي الذي يحكمها، حيث إنه لا يمكن لإثيوبيا
المحبوسة بين الجبال أن تواجه الجيش المصري الذي يتفوق
عليها بالصواريخ بعيدة المدى وبأسراب الطائرات القتالية،
كما أن إخلاء مياه البحر الأحمر للسفن المصرية في حالة
قيام الحرب هو انتحار مضمون لإثيوبيا، وبالتالي فإن
التواجد على سواحل ومياه البحر الأحمر هو مسألة حياة أو
موت بالنسبة لإثيوبيا ولا بد أن يتحقق ذلك في أقصر مدة
ممكنة.
إثيوبيا دولة مسيحية، تعيش محاصرة وسط محيط
من الشعوب المسلمة "المعادية"، وأن إثيوبيا صديق موثوق
وحليف استراتيجي للدول العظمى، وأن هذه الدول في غالبيتها
لن تمانع في سعي إثيوبيا لتصحيح تموضعها الإستراتيجي وضمان
أمنها المستقبلي بتثبيت أقدامها على الجهة المقابلة
والمطلة بشكل مباشر على ما يسمى بقلب العالم الإسلامي في
مكة والمدينة، وانطلاقا من هذا الواقع، فإن استيلاء
إثيوبيا على كل أو معظم الموانئ الواقعة في الضفة الغربية
للبحر الأحمر هو حق طبيعي بل هو من صميم متطلبات الدفاع
الإستراتيجي، كما أن هذا التواجد يحقق ضمانا أكبر للأمن
الإقليمي للدول الصديقة، لا سيما تلك الدول التي ظلت تعاني
طوال تأريخها في المنطقة من العزلة والحصار والمقاطعة
والتنمر الذي تمارسه عليها بعض الدول العربية المطلة على
البحر الأحمر، وبالإضافة إلى ذلك فإن القوات البحرية
الإثيوبية هي الوحيدة التي تملك عاملي الرغبة والقدرة معا
على منع التمدد الإسلامي باتجاه إفريقيا الشرقية حيث
يمكنها محاصرة النشاطات التبشيرية الإسلامية ومنع تسلل
الجماعات الإسلامية.
وجود مؤشرات قوية على أن الولايات المتحدة
الأمريكية باتت راغبة عن التواجد العسكري الفعلي طويل
الأجل في منطقة الشرق الأوسط، وفي حالة الانسحاب الأمريكي
من المنطقة فإن إثيوبيا هي الدولة الوحيدة المؤهلة لرعاية
مصالح الولايات المتحدة بولاء مطلق.
والشعب الإرتري بما لديه من مشتركات
تأريخية ودينية وثقافية مع الشعب الإثيوبي لن يقف عقبة
أمام تصحيح التموضع الإستراتيجي لإثيوبيا، لأن ذلك يهدف
إلى تحقيق وضمان الأمن القومي لشعوب المنطقة، والقيادة
السياسية في إرتريا على استعداد لاتخاذ خطوات جريئة لتحقيق
ذلك بما في ذلك إعلان الوحدة الكاملة بين إثيوبيا وإرتريا.
بالإضافة إلى كل ذلك، هناك سانحة تأريخية
نادرة التكرار، وهي وجود قيادات في الدول الإقليمية
العربية والإسلامية أبدت استعدادها للترحيب بالخطوات
الإثيوبية والاعتراف بها وحتى تمويلها.
تتطور النسخ المتوارثة من عقلية الأباطرة
عند الأمحرا والتجراي بشكل عام على مبدأ السطو، السطو
بمعناه الحرفي، حيث يبدأ العقل الإمبراطوري الصغير
بالتفكير في انتزاع ما بيد الآخرين، لا سيما إذا سمحت له
الظروف وامتلك قطعة من السلاح الناري، فإن أول تمرين يقوم
به هو الإغارة على الرعاة من المجتمعات المجاورة وقتلهم
وسَوْق مواشيهم وأنعامهم ليعود بها إلى قريته حيث يعتبر
لصوص المواشي أبطالا لا مجرمين، ويتطور الأمر تدريجيا إلى
تكوين مليشيات مسلحة تعتاش على السطو والعدوان، بما في ذلك
السطو على المسافرين ونزع الحلي الذهبية من آذان وأنوف
النساء، وهذه حقائق تعلمها وتعاني من آثارها حتى اليوم
الشعوب المجاورة لهذه المجموعة العرقية، أما السطو على
الأراضي الزراعية الجاهزة في موسم الحصاد وقتل المزارعين
ونهب المحاصيل الزراعية، فما هي إلا تعبير عن التطور
الطبيعي للعقيدة الإمبراطورية التوسعية التي تتبناها
السلالة الجديدة من الأباطرة، ويشاهد العالم تطوراتها
وآثارها من خلال شاشات التلفزيون ضمن القتال الجاري بين
الجيش السوداني ومليشيات الأمحرا في منطقة الفشقة على
الحدود بين الدولتين، وهي لا تختلف في جوهرها عن العقيدة
السياسية التي تأسست عليها الدولة الإثيوبية الحديثة، حيث
تمكن الأباطرة تدريجيا من توسيع رقعة الهيمنة على حساب
الشعوب المجاورة واستولوا على أراضيها وفرضوا عليها لغتهم
وثقافتهم ونجحو في إخضاعها بشكل كامل، وعلى أنقاضها تأسس
ما يعرف اليوم بدولة إثيوبيا، المسكونة دائما بالطموحات
التوسعية التي تتغذى على الاستعلاء القومي.
حدود دولتنا هي حيثما تصل سيوفنا ورماحنا،
هذا هو المبدأ القديم-الجديد الذي يتبناه أبي أحمد والتيار
القومي لعرقية الأمحرا الذي يقف خلفه متحفزا، وبالمناسبة،
أبي أحمد ينتمي إلى عرقية الأمحرا من جهة والدته، وقد ذكر
في إحدى لقاءاته بأن والدته رأت في المنام أن ابنها سيكون
ملكا متوجا على إثيوبيا، ودليل آخر أكثر وضوحا على الأحلام
الإمبراطورية التي تراود أبي أحمد، قوله (في العام 2050م
سيكون في العالم قوتين عظميين فقط، وستكون إحداهما
إثيوبيا، وقد وضعنا كل الخطط الكفيلة بإنجاح هذا المشروع
وتحقيق هذه الرؤية) وهذا النص هو ترجمة حرفية لما قاله
رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي في
أديس أبابا قبل أسابيع قليلة. وما لم يصرح به أبي أحمد في
جلسة البرلمان تلك، هو، أنه شخصيا يطمح أن يكون على رأس
الإمبراطورية الإثيوبية الحديثة، امبراطورية ليس لها حدود
ولا تعترف بحقوق المجتمعات المجاورة، تمجد القوة والحرب
وتتغذى على دماء الشعوب، هذه هي الإمبراطورية التي يحلم
بها أبي أحمد، وقد وضع لها، بالفعل، حجر الأساس في مدينة
قوندر، العاصمة التأريخية لأباطرة الحبشة قبل سنتين بجانب
صديقه الجديد ومرشده الشخصي والأب الروحي لفكرة إحياء
الإمبراطورية الحبشية السيد أسياس أفورقي.
لكن، ألا يبدوا غريبا، أن يكون إسياس
أفورقي رئيس دولة إرتريا التي عرف شعبها بصراعه ومقاومته
الدائمة لطموحات أباطرة الحبشة، أن يكون هو من يضع حجر
الأساس لإحياء الأحلام الإمبراطورية لأثيوبيا؟ ألم يبدُ
أسياس خارج السياق وهو يقف شخصيا أمام أضرحة ومقامات
الأباطرة الإثيوبيين في قوندر خاشعا متذللا وكأنه يقف أمام
خالقه؟ ألم يشعر أسياس أفورقي بأنه في وقفته الخاشعة تلك
عبر بشكل لا يقبل التأويل عن خيانته المفضوحة لأرتال
الشهداء وضحايا حرق القرى وحملات إبادة النسل التي نفذتها
جيوش الأمحرا ضد الشعب الإرتري؟
لا غرابة في الأمر إطلاقا، لا سيما لمن
يعرفون الخلفية الاجتماعية للرجل، أسياس أبراهام أفورقي
ينحدر في الواقع من أسرة تعود بجذورها القريبة إلى أباطرة
إثيوبيا، حيث هاجر والده السيد أبرهام أفورقي إلى إرتريا
عندما اشتدت المجاعة في قريتهم " قرية تمبين" في إقليم
التجراي بإثيوبيا، وشاءت الأقدار أن ينضم إسياس أفورقي إلى
الثورة الإرترية التي أرسلته فورا إلى جمهورية الصين
الشعبية للحصول على التدريب السياسي والعسكري، ثم انقلب
على الثورة وعلى مبادئها لاحقا وقام بتصفية قادتها بعد أن
أوصله بعضهم إلى أسمرا محمولا على الأكتاف ومحاطا ببنادق
الثوار، وتمكن تدريجيا من السيطرة الكاملة على الشعب
الإرتري، لا لشيء إلا لبراعته المذهلة في خلق وتربية طبقة
من" القطط السياسية الأليفة" من النفعيين عديمي المروءة من
أبناء المجتمع المحلي، ليحتمي بهم ويستخدمهم سيوفا يبطش
بها وآذانا يتجسس بها على كل صوت حر من أبناء الشعب
الإرتري، وهكذا اشتغل ثلاثين سنة على تدمير كل شيء إرتري
وما زال، وبما أن العِرْق دساس فليس غريبا عليه أن يقوم
اليوم بخيانة الشعب الإرتري والانحياز إلى أصله وتأريخه.
وبالعودة إلى أحلام أبي أحمد التي عبر عنها أمام برلمانه،
ربما تبدو تلك الأحلام ضرب من جموح الخيال إن لم تكن من
أعراض الهلوسة التي تقود صاحبها إلى عدِّ أعمدة الإضاءة في
الشوارع والطرقات، وبالذات الجزء المتعلق منها بالقوتين
العظميين اللتان ستحكمان العالم في ظرف ثلاثة عقود، على أن
تكون إثيوبيا إحداهما، ولكن من خلال مراجعة العقيدة
السياسية للحبشة تاريخيا يمكننا أن نرى بوضوح أن أبي أحمد
لا يتحدث من فراغ، وإنما يتحدث بناءً على الأحلام
الإمبراطورية التي رسمتها له البيئة المحيطة به، بما في
ذلك والدته، ومرشده الروحي أسياس أفورقي إلى جانب التيار
القومي لعرقية الأمحرا الذي يقف خلفه مرحليا، وأيضا بناءً
على المعطيات الداخلية والخارجية المتمثلة في القوة
العسكرية والاقتصادية التي امتلكتها إثيوبيا في فترة حكم
التجراي، والمناخ السياسي العام الذي يسود العالم والمنطقة
في الوقت الراهن، لكن يبدوا أن هناك حقيقة تغيب عن
الإمبراطور الواهم أبي أحمد، هي أن التيار القومي لعرقية
الأمحرا ومعهم أسياس أفورقي اجتمعوا في أسمرا وناقشوا
موضوع خلافة أبي أحمد، وذلك أثناء زيارة وفد الإقليم
المكون من كبار رجالات الكنيسة الأرثوذكسية وقادة المجتمع
من عرقية الأمحرا والسياسيين القوميين إلى أسمرا في سبتمبر
2018م، واتفقوا على أن يتم استخدام أبي أحمد مرحليا كأداة
لاستعادة مفاتيح الحكم في إثيوبيا ووضعها من جديد في يد
الأمحرا ثم التخلص منه في أقرب منعطف عند انتهاء مهمته،
والتفرغ بعد ذلك لبناء الإمبراطورية الحبشية الكبرى التي
انتظر أفورقي ميلادها فترة طويلة.
خرج الجيش الإثيوبي مهزوما منكسرا من إرتريا عام 1991م،
بالتزامن مع خروج العالم لتوه من حقبة الاستقطاب السياسي
للحرب الباردة، وولوجه بوابة العصر الذهبي للديمقراطية
والمساوات بين البشر واحترام حقوق الإنسان وحقوق الشعوب
وسيادة حكم القانون والرفاه الاقتصادي، وهناك دول وشعوب
أفلحت في استثمار ذلك المناخ الدولي وحققت مكاسب سياسية
واقتصادية هائلة، إلا أن إرتريا لسوء حظ شعبها لم تقترب من
بوابة العصر الذهبي للديمقراطية، بل دخلت مباشرة بعد
استقلالها في نفق الاستبداد، ولم تخرج منه حتى اليوم، بفعل
نظام سياسي لا ينتمي إلى العصر الحديث بقدر انتمائه إلى
عصر الأباطرة الأحباش، فالسلوك السياسي للدولة الإرترية
المستقلة بقيادة أسياس أفورقي، لا يمكن النظر إليه خارج
السياق التاريخي لسلوك أباطرة الحبشة حيث انهمك نظام أسياس
أفورقي في ممارسة القمع السياسي الداخلي والعمل على ترسيخ
الهيمنة القومية والثقافية لقومية واحدة على حساب بقية
مكونات المجتمع الإرتري، بالإضافة إلى محاولات التوسع
المستمرة وإشعال الحروب بالاعتداء على أراضي الدول والشعوب
المجاورة التي بدأت بالاستيلاء على جزر حنيش اليمنية ثم
الاعتداءات المتكررة على كل من السودان وجيبوتي والتحرش
بالسعودية وتوجيه الشتائم إلى قيادتها في عهد الملك الراحل
فهد، وصولا إلى الحرب الحدودية المدمرة مع إثيوبيا.
ثلاث عقود مرت كما البرق، تحرك فيها العالم قليلا إلى
الأمام، ثم بدأ بالتراجع قليلا إلى الوراء، وبقيت إرتريا
مقيدة تئن وحيدة في قاعٍ مظلم، وحتى لو خرجت إرتريا من نفق
الاستبداد اليوم، فإنها لن تجد العالم كما كان قبل ثلاثة
عقود، حالمًا متفائلا، بل ستجد العالم يقف على أبواب عصر
جديد هو" عصر كساد الديمقراطية" كما وصفه لاري دايموند، أو
" عهد بوار القيم الإنسانية" كما نراه ونعيشه، تراجعت
الديمقراطية كقيمة إنسانية، حدثت تحولات تدريجية غير سارة
في النظام العالمي، وتراخت قبضة المجتمع الدولي ومنظماته
العريقة التي كانت ذات شأن كبير حتى وقت قريب، فالأمم
المتحدة لم تعد تملك غير الترحم والمواساة والدموع، وأصبحت
الديمقراطية تواجه تحديات مصيرية في عقر دارها، بالتوازي
مع صعود النزعات القومية والدينية وبداية العصر الذهبي
لصراع الهويات، وانقسمت المجتمعات على نفسها على أساس
الدين والعرق واللون، بجانب عجز أو تقاعس الدول الكبرى عن
دورها في حماية الشعوب المقهورة، ولاختبار مدى ثبات أو
تقهقر الديمقراطية كآلية لا تزال معتمدة ومضمونة لتداول
السلطة، يمكن أن نستشهد بوضع الديمقراطية في أمريكا،
فللمرة الأولى في تأريخ الولايات المتحدة الأمريكية، قلعة
الديمقراطية الحصينة، يتم التشكيك في نزاهة الانتخابات
وحتى في جدواها، ليس من قبل بائع تبغ متجول في شوارع
نيويورك، وإنما من قبل رئيس أمريكي لا يزال في منصبه، خسر
الانتخابات لتوه، هو الرئيس دونالد ترامب، إن لم يكن هذا
مؤشر كاف على حقيقة انهيار الديمقراطية فماذا إذً؟ وما فوز
الديمقراطيين في انتخابات هذا العام إلا كدواء مؤقت مسكن
للألم، لأن صعود اليمين في أمريكا لن يتوقف وسيعودون مرة
أخرى وهم أكثر شراسة من ذي قبل.
عند استقلال إرتريا، كان المجتمع الدولي بقيادة الولايات
المتحدة قادرا على تطبيق العرف الدولي "مسؤولية الحماية"
وبالفعل نجح من خلاله في كبح جماح المذابح العرقية في كل
من رواند (1994م) والبوسنة والهرسك (1995م) بالتدخل
العسكري المباشر، لكن نفس المجتمع الدولي وقف في السنوات
الأخيرة عاجزا عن التدخل لإيقاف مذابح مشابهة تعرض فيها
الروهينغيا والإيغور والمسلمين في إفريقيا الوسطى للتنكيل
وأهدرت أرواحهم وكرامتهم البشرية أمام مرأى العالم ومسمعه،
وبالتأكيد هناك، مذابح في الطريق يتم الإعداد لها من قبل
أطراف عديدة، وذلك بناءً على المؤشرات التي تسبق المذابح
الفعلية، ولا أمل في أن يختلف رد المجتمع الدولي عليها عن
سابقاته، سيكتفي أنطونيو غوتيريش أو من يخلفه في المنصب
بالتعبير عن "القلق البالغ" وإبداء الأسف على الضحايا مع
إمكانية إمداد الناجين بالدقيق والزيوت والخيام إن توفرت،
وربما تُبِينُ المذابح القادمة، ما في قِدْرِ المجتمع
الدولي من عجز فعلي حتى عن القيام بمهمة الإغاثة والحماية
التي ظل يقوم بها مشكورا في الماضي، ولن يكون مستغربا أن
يتراجع المجتمع الدولي خطوة أخرى إلى الوراء ليقف في صف
المتفرجين، هذا إن لم يتم ضبطه في صف المتواطئين، لا سمح
الله.
ليس هناك دليل أكثر وضوحا على ضعف وهشاشة
مؤسسات المجتمع الدولي وربما على قرب انهيار النظام
العالمي من أن يتم إطلاق النار على فرق العمل الإنساني
التابعة للأمم المتحدة وقتل أفراد من عمال الإغاثة، ليس من
قبل مليشيات خارجة عن القانون أو مجموعات إرهابية، وإنما
من قبل الجيش النظامي لدولة عضو في الأمم المتحدة هي
إثيوبيا، وليس هناك مؤشرٌ أكثر وضوحا على تخلي المجتمع
الدولي عن دوره في حماية اللاجئين من أن يقوم الجيش
النظامي الإثيوبي بالتواطؤ والتآمر للسماح لجيش دولة أخرى
(إرتريا) باختراق الحدود الدولية للهجوم والسيطرة على
معسكرات اللاجئين الإرتريين الهاربين من بطش ذات النظام ،
ثم انتزاع أولئك اللاجئين من حضن الحماية الوهمية الذي
خدعتهم به الأمم المتحدة وسَوْقِهم كالخراف، وإعادتهم قسرا
إلى إرتريا وقتل من حاول الفرار منهم، دون أن يكون للأمم
المتحدة أي دور في حماية رعاياها من اللاجئين غير التأسف
المعهود والخوف الشديد على مصيرهم، أسياس أفورقي يدرك
تماما بأن المجتمع الدولي لن يتحرك لإنقاذ أحد، والشواهد
على ذلك ماثلة أمامه في مصائر الشعوب الغافلة، التي أحسنت
الظن بالمجتمع الدولي لحمايتها وإنقاذها فشربت المقلب وتم
القضاء عليها وهي تتساءل " أين الأمم المتحدة"
بناءً على هذا الواقع المتردي الذي وصل إليه ضعف مؤسسات
المجتمع الدولي وتقاعسه الواضح عن القيام بواجبه بالتدخل
وفق قانون مسؤولية الحماية، يمكن القول أننا اليوم أمام
مناخ دولي مختلف لا يشبه المناخ الذي كان سائدا عند
استقلال إرتريا، وبالتالي يمكن القول أيضا، بأن العصر
الذهبي لحكم الأباطرة الذي انتظره إسياس أفورقي طويلا بدأ
يلوح في الأفق وأصبحت أحلام التوسع الإمبراطوري التي راودت
أفورقي طويلا ممكنة وقابلة للتحقق، وبما أن العقيدة
السياسية لأفورقي هي تمزيق الشعوب وإفقارها حد المجاعة
للسيطرة عليها وإخضاعها، وخرق المعاهدات والقوانين الدولية
والسطو على حقوق الشعوب المجاورة فإن أمامه اليوم فرصة
ذهبية لفعل ذلك أكثر من أي وقت مضى، وذلك لتوفر ظروف
وعوامل عديدة، على رأسها أن الجيش الإثيوبي الذي يعتبر من
الجيوش الكبيرة والوازنة في إفريقيا هو اليوم بطريقة وأخرى
ينفذ أوامر أسياس أفورقي بالتعاون والتنسيق الكامل مع
التيار القومي لعرقية الأمحرا الذي رعاه أفورقي وقام
بتأهيله وإعداده لحكم إثيوبيا واستعادة هيمنة الأمحرا على
مقاليد الأمور في إثيوبيا منذ عشرات السنين في داخل
إرتريا، ومن هنا فإنه يمكن الجزم بأن مركز الجذب (Centre
of Gravity) في القرن الأفريقي الجديد تحول إلى أسمرا
وقوندر بدلا عن أديس أبابا.
التجراي:
ثمن
الصوابية السياسية.
الحرب ضد التجراي كشعب، والحرب ضد النخبة السياسية الحاكمة
في الإقليم، الجبهة الشعبية لتحرير تجراي لم تبدأ بمجيئ
أبي أحمد على رأس السلطة في إثيوبيا، الحرب ضد التجراي
والعمل على التخلص منهم بأي ثمن بدأها أسياس أفورقي منذ
مايو 1997م بما سمي بالحرب الحدودية، التي لم يكن الخلاف
حول الحدود إلا قميص عثمان لتبريرها، وحسب الحكم الصادر عن
المحكمة المختصة في لاهاي فإن الطرف الذي انتهك القانون
الدولي وأشعل فتيل الحرب هو الطرف الإرتري، كما أن اللجنة
المختصة قررت إلزام الطرف الإرتري بدفع تعويض مالي
لإثيوبيا قدره 12 مليون دولار أمريكي بعد تصفية الخسائر من
الطرفين وتحديد الطرف المذنب، بمعنى أن تلك الحرب اندلعت
لتحقيق رغبة أفورقي في الانتقام من التجراي، ولا علاقة لها
بالسيادة الوطنية المفترى عليها، وبعد انتهاء الحرب مباشرة
بدأ أسياس أفورقي بجمع القوميين الأمحرا (حركة قمبوت 7) في
أسمرا واستمر في تسليحهم وتدريبهم وتحريضهم ضد شعب وقيادة
التجراي، وعلى المستوى المحلي في إرتريا تواصلت آلة
الدعاية التي كان يبثها التلفزيون الرسمي للدولة الإرترية
فترة طويلة، مستخدمة أساليب الدعاية التي استخدمها جوزيف
غوبلس في ألمانيا النازية، خداع الشعب بالأكاذيب وتكرار
نفس الأكاذيب دون توقف حتى ترسخ في أذهان الأجيال كحقائق،
بالإضافة إلى التحريض والتنمر العرقي ضد التجراي كشعب
والمحاولة المستمرة للحط من مكانتهم كبشر بوصفهم بكل أوصاف
القبح والدونية إلى درجة أن الشتائم العرقية التي كان
يوجهها التلفزيون الرسمي ضد شعب التجراي والتهكم من
ثقافتهم ومن لهجتهم وحتى من أشكالهم كبشر، خلقت صورة ذهنية
مشوهة في أذهان معظم الإرتريين عن التجراي كشعب، هذا على
مستوى التنميط الاجتماعي والعنصرية المكشوفة التي مارستها
آلة الدعاية الرسمية لنظام أفورقي ضد التجراي، وفي الجانب
السياسي كان تلفزيون النظام الإرتري هو الوسيلة الإعلامية
الوحيدة التي تجرأت على تسمية النظام القائم في إثيوبيا
ب"حكومة أقلية التجراي" أو " زمرة وياني" وكلمة وياني من
حيث المدلول السياسي الأصلي لها تعني " المحارب الثائر"
وهي ثورة تمرد معروفة في إقليم تجراي ضد نظام الإمبراطور
هيلي سلاسي في العام 1943م، ومن حيث السياق الاجتماعي فإن
مصطلح وياني يجب أن يشمل إسياس أفورقي شخصيا لو أمعنَ
النظر قليلا إلى جذوره الاجتماعية، لكن بسبب الاستخدام
المغرض والمحرف والمستمر للكلمة من قبل الدعاية الإعلامية
لنظام أسياس أفورقي في إرتريا تحولت عبارة " وياني" إلى
مصطلح يعبر عن شتيمة سياسية موجهة بشكل حصري ضد الجبهة
الشعبية لتحرير تجراي، كما أنها باتت تستخدم كوصف يعبر عن
الاستخفاف الاجتماعي وتقليل الشأن، وهذا السلوك هو في
الواقع سلوك دخيل على الشعب الإرتري ولا يتماشى مع القيم
الاجتماعية المنبثقة عن العادات والتقاليد القبائلية للشعب
الإرتري عموما، فالإساءة والشتيمة هي سلوكيات ينبذها
المجتمع الإرتري ولا يلجأ إليها حتى في الخصومات الشديدة،
ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد وقع الشعب
الإرتري فريسة لزمرة عديمة القيم عديمة الأخلاق أساءت إليه
وإلى تأريخه وموروثاته مستخدمة اسمه في حروبها القذرة ضد
الشعوب المجاورة وعلى وجه الخصوص ضد شعب إقليم التجراي.
لكن، ألا يجدر بالناس مناقشة جوهر الخلاف الذي أدى إلى هذا
العداء وهذا الانتقام وهذا الثأر من التجراي؟ جوهر الخلاف
بين أسياس أفورقي ورفيقه القديم ملس زيناوي كان حصريا حول
منهجية حكم إثيوبيا، كان أفورقي يرى بوضوح أن السماح
للشعوب الإثيوبية، وبصفة خاصة شعوب الأرومو والصوماليين
والعفر بالمشاركة في السلطة على قدم المساوات مع التجراي
والأمحرا سيفتح عيونا ظلت مغمضة ويوقظ مجتمعات ظلت نائمة
لمئات السنين، وأن الحل الوحيد الضامن لبقاء إثيوبيا
بهويتها الدينية الأرثوذكسية وثقافتها السياسية
الإمبراطورية هي أن يظل الحكم محصورا في يد القوميتين
التجراي والأمحرا، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر الاستمرار
في ذات النهج القديم، القمع والاستبداد والهيمنة كما فعلت
إثيوبيا على طول تأريخها، كان أفورقي يدفع بإصرار في اتجاه
تبني إثيوبيا النظام السياسي المركزي الشمولي، وهو نفس
النهج السياسي الذي طبقه أسياس أفورقي في إرتريا بعد
الاستقلال وحقق من خلاله تدميرا شبه كامل للمجتمع الإرتري
فاق كل التصورات، وتمثل في منع المجتمعات المحلية في
إرتريا من التعليم وحرمانهم من العمل والتجارة وحتى منعهم
من التوالد والتكاثر، بدليل أن عدد السكان في إرتريا تجمد
عند الثلاثة ملايين التي كان عليها قبل ثلاثين سنة، هذا إن
لم يكن قد تقلص والتقديرات والحسابات العادية للنمو
السكاني تقول أن عدد سكان إرتريا اليوم كان سيصل إلى ما
بين 12 إلى 10 ملايين نسمة، ويعود السبب في ذلك إلى حرمان
الشعب الإرتري من الاستقرار ومنعه من التزاوج والتكاثر
الطبيعي. هذا هو المصير الذي كان يخطط له أفورقي للشعوب
الأثيوبية، وتحديدا الأرومو والصوماليين والعفر، إلا أن
قيادة التجراي رفضت هذا الخيار وانحازت إلى خيار الحكم
الفدرالي متعدد الثقافات ومتعدد الأعراق والأديان.
كان التجراي بقيادة ملس زيناوي يرون بشكل
واضح بأن عهد التحكم والهيمنة القومية سواءً للأمحرا أو
التجراي لم يعد ممكنا، وأن ائتلاف الأحزاب والتنظيمات
السياسية الذي تم تكوينه ممثلا لكل القوميات الإثيوبية
لاستلام الحكم إثر سقوط نظام منجستو هيلي ماريام لا يمكن
الاستغناء عنه باعتباره الضامن الوحيد لتماسك الشعوب
الإثيوبية واستمرار اثيوبيا كدولة موحدة عبر الوحدة
الطوعية الاختيارية لكل شعوب إثيوبيا دون تمييز، وأن
إثيوبيا كدولة تضررت من آثار الهيمنة القومية في السابق
ولم تشهد أي تطور إيجابي غير الموت والدمار والفقر
والمجاعات والتخلف على كل الميادين، وإنه من المفيد
لأثيوبيا على المدى البعيد أن ترسي نظاما فدراليا متعدد
القوميات.
إن الجريمة التي لم ولن يغفرها أسياس
أفورقي ومعه تيار الأمحرا القومي لقادة الجبهة الشعبية
لتحرير تجراي، هي أن قادة التجراي خرجوا عن مألوف الحكم في
إثيوبيا، وحاولوا السباحة عكس التيار، حيث عملت قيادة
الجبهة الشعبية لتحرير تجراي خلال السنوات التي قضتها في
حكم إثيوبيا على تصحيح الخطيئة التأريخية التي صاحبت نشوء
الدولة الإثيوبية الحديثة، وذلك بإتاحتها فرصة تأريخية
لجميع القوميات والعرقيات الإثيوبية للمشاركة في الحكم
جنبا إلى جنب، وعلى قدم المساوات مع أحفاد الأباطرة
السابقين، ليجن بذلك جنون إسياس أفورقي ويتحول إلى عدو
شديد البأس شديد الانتقام ضد التجراي، وأصبح تدمير التجراي
وإزاحتهم عن حكم إثيوبيا قضية موت أو حياة بالنسبة
لأفورقي، وفعلا ، ها هم التجراي وقد دفعوا الثمن غاليا،
حيث تعرضوا للتشويه والتنمر العرقي وصولا إلى الاجتياح
والعزو العسكري، وتمت إزاحتهم من الحكم حتى من إقليمهم،
كما تعرض شعبهم للتنكيل والتشريد.
ومهما قيل عنهم، لأنهم الطرف الأضعف في معادلة الصراع في
إثيوبيا اليوم، فإن تاريخ إثيوبيا على المدى البعيد، سيقف
شاهدا لصالح التجراي، لا عليهم، لأن إثيوبيا تحت قيادتهم
شهدت عصرها الذهبي بالمقارنة مع ماضيها المؤسف، وأن الشعوب
الإثيوبية تنفست الصعداء وحققت مكتسبات حقيقية ملموسة بعد
أن تحررت من عصور الهيمنة القومية للأمحرا بسقوط نظام
منجستو هيلي ماريام عام 1991م، وتحولت إثيوبيا تدريجيا إلى
دولة واعدة في ظل إصلاح سياسي تمثل في تبني نظام الحكم
الفدرالي متعدد القوميات، وهو ما أتاح لشعوب إثيوبيا
المقهورة فرصة تأريخية لتطوير ذاتها في ظل نظام يعترف
بهويتها وثقافتها ولغاتها وحيازتها التأريخية على أرضها
ويسمح لها بإدارة شؤونها وتنمية مواردها الاقتصادية
المحلية والاستفادة منها بشكل شبه مستقل عن هيمنة المركز،
وهو ما كان محرما على الشعوب الإثيوبية في كل العصور التي
عاشتها تحت هيمنة أباطرة الأمحرا، وانعكس هذا الإصلاح
السياسي مباشرة على اقتصاد الدولة الإثيوبية حتى وصلت إلى
تسجيل سبق تأريخي بثباتها على رأس قائمة الدول الأسرع نموا
في العالم لمدة عشر سنوات متتالية (2004-2014م).
لو كان الهجوم على تجربة الحكم في إثيوبيا
يأتي من طرف محايد أو من طرف يمتلك ذرة من المصداقية لكان
الأمر مقبولا، لكن أن يملك أسياس أفورقي الجرأة للحديث عن
احتكار التجراي للسلطة في إثيوبيا، ويتحدث دون خجل عن حقوق
الشعب الإثيوبي بعد أن داس إرتريا "زهرة الربيع" تحت قدميه
وحولها إلى مقبرة مهجورة نصف شعبها مشرد خارج البلاد ونصفه
الباقي يعاني تحت الحصار والتجويع المنظم يواجه الموت
البطيء، أسياس أفورقي الذي تخرجت من مدرسته أخطر المجموعات
العنصرية القومية في القرن الإفريقي وهي " حركة أجازيان"
التي تهدد علنا بإبادة مسلمي إرتريا واحتجازهم في الحظائر
مع المواشي والكلاب وإبادة نسلهم من إرتريا بشكل نهائي،
لإقامة دولة تجراي الكبرى فوق أرضهم وعلى أنقاض ثقافتهم
وتأريخهم، ومعلوم للعارفين ببواطن الأمور بأن رئيس "حركة
أجازيان" تسفا صهيون كان من الكوادر المتقدمة في منظمة
"شباب الجبهة الشعبية" التي تمثل الجناح الشبابي لتنظيم
الجبهة الشعبية الذي يرأسه أسياس أفورقي ويحكم إرتريا من
خلاله، هذا الأسياس هو نفسه من يصدر الفتاوى السياسية بشأن
احتكار التجراي للحكم في إثيوبيا، هذا يعني أن الغراب
الأسود لن يستحي من الخروج ليعاير الحمامة بالسواد،
والأغرب من كل هذا أن يكون الجنود الذين ينفذون أجندات
أسياس أفورقي بالحرب على التجراي " لاستعادة النظام
والقانون" هم المليشيات القومية لعرقية الأمحرا، أحفاد
الأباطرة ورموز الخطيئة التأريخية في إفريقيا.
لولا أننا نعيش في عالم يحكمه منافقون، فإن
المواقف السياسية للجبهة الشعبية لتحرير تجراي سواءً في
طريقة إدارتها للحكم في إثيوبيا وحتى بعد طردها من أديس
أبابا ومحاصرتها في حدود إقليم التجراي ليست بنفس درجة
السوء والفظاعة التي تم تصويرها للعالم، الأخطاء
والتجاوزات التي حدثت أثناء حكمهم لإثيوبيا يتضح من
طبيعتها أنها لم تكن ممنهجة، ومهما كانت طبيعة تلك
التجاوزات كان من المفترض وضعها أمام السلطة القضائية
(الدستورية أو الجنائية) ومعالجتها في سياقها الطبيعي إما
كجرائم سياسية أو كجرائم جنائية، وبالتالي لم تكن لتبرر
العقاب الجماعي لشعب التجراي بأكمله، ومهما كانت تجاوزات
وأخطاء التجراي، فإنها لا تساوي قطرة في بحر التجاوزات
والجرائم الممنهجة التي ارتكبها التيار القومي لعرقية
الأمحرا ضد الشعوب الإثيوبية، وربما تلك التي يخطط
لارتكابها في المستقبل، ولا الجرائم الكبرى ضد الإنسانية
وحرب الإبادة الثقافية الصامتة وجرائم التطهير العرقي
الممنهج التي نفذها إسياس أفورقي ومجموعته ضد شعب إرتريا.
وحتى بالمقارنة مع مواقف، أبي أحمد، الضيف
الجديد الذي هبط على كرسي السلطة في إثيوبيا عن طريق
الخداع والالتفاف على سلفه " الرجل المسكين" هيلي ماريام
ديسالينج، فإن الخارج عن القانون وفق القانون والدستور
الإثيوبي، هو من تهرب من إجراء انتخابات مستحقة بحجة الخوف
من وباء الكورونا، والخارج عن القانون هو من أعطى لنفسه
الحق وقرر أن الكورونا تمنع إجراء الانتخابات ولكنها لا
تمنع تحريك الجيوش شمالا لخوض حرب "تطبيق القانون
والنظام"، وليس المجرم بأي حال من الأحوال من التزم بإجراء
الانتخابات في موعدها حسب ما يقتضيه دستور البلاد، وهو
بالضبط ما فعلته القيادة السياسية في إقليم التجراي، شأنها
في ذلك شأن العديد من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة
التي قامت بإجراء الانتخابات المستحقة في موعدها بالرغم من
أن نسبة الانتشار وعدد الإصابات الفعلية أكبر في أمريكا
مقارنة بإثيوبيا.
لقد دفعت الجبهة الشعبية لتحرير تجراي، بلا شك، ثمنا باهظا
لتمسكها بالصوابية السياسية وتفاعلها مع البيئة السياسية
المحيطة بها بما يمكن أن نسميه "العبط الإستراتيجي المحض"،
حيث أنها ظلت تتوسل الأطراف الشريكة في الائتلاف الحاكم في
إثيوبيا للالتزام بنصوص القانون والدستور الإثيوبي في عالم
لم يعد يسمع لتوسلاتها، كما أنها لم تفعل ما كان عليها
فعله في السابق عندما كانت تملك كل أدوات الفعل، حيث ظل
نظام أسياس أفورقي في إرتريا يشحن الأجواء ويسمم العقول
حولها بينما كانت قيادة التجراي منشغلة ببناء الاقتصاد
والقوة العسكرية الضاربة لإثيوبيا، ليتحول كل ذلك إلى
مصيبة وقعت على رأسها في الوقت القاتل.
السودان:
هل لا زال يملك العزيمة لتحطيم أحلام الأباطرة؟
يتذكر معظم السودانيين، ربما، أن قوات بلادهم ممثلة في
الجيوش المهدية قتلت الإمبراطور يوهنس الرابع في معركة
القلابات في منطقة المتمة بشرق السودان عام 1889م ثم قطعوا
رأس يوهنس وحملوه إلى الخرطوم وطافوا به شوارع أمدرمان
مغروزة عليه الرماح، ولكن معظم السودانيين لا يعرفون أن
أسياس أفورقي رئيس إرتريا وعراب الطموحات الإمبراطورية
التوسعية لأثيوبيا ينحدر من نفس سلالة الإمبراطور يوهنس،
بالإضافة أن كلاهما ينحدران من نفس القرية " تمبين" في
إقليم التجراي، وكل من يعرف أسياس أفورقي يعرف أيضا أنه
ينطبق عليه الوصف العربي " أحقد من الجمل" ،فهو كذلك
حقيقةً لا مجازًا، ومن يعتقد أن أفورقي يمكن أن ينسى،
فعليه أن يشاهد ما يفعله بأشقائه الأقربين في إقليم
التجراي وقد سلط عليهم طوفان الكراهية العرقية لمجرد
موقفهم الرافض لطموحاته الإمبراطورية التوسعية.
مباشرة بعد إنجاز مهمة التخلص من التجراي
وتصفية قياداتها، فإن الشغل الشاغل لأسياس أفورقي هو البدء
في مشروع الثأر من السودان واقتطاع أجزاء مهمة من أراضيه
وربما تفكيك الدولة السودانية، وفي غالب الظن، ستعتقد
النخبة السياسية الحاكمة في السودان بأن هذا غير ممكن، وأن
أفورقي هو "صديق الشعب السوداني" وهو نفس فخ "التفكير
السطحي" الذي أضاع الفرصة من يد النخبة السياسية لإقليم
التجراي وحال بينهم وبين اتخاذ أي خطوات حاسمة لتغيير نظام
أفورقي عندما كانوا يملكون القدرة على فعل ذلك، لأنهم
كانوا ينظرون إلى أفورقي نظرة الأب إلى ابنه الشقي.
لم ينس أفورقي أن يأخذ بثأر جده من
السودان، العجز وقلة الحيلة فقط هو ما منعه من ذلك في
السابق، في انتظار الفرصة السانحة، وها هي الفرصة
التأريخية وقد هبطت عليه من السماء، بأن تحول بقدرة قادر
إلى مركز الجذب في القرن الإفريقي الجديد، حيث منحته
الأقدار سلطة لم يكن يحلم بها، ومكنته من السيطرة على مقود
تحريك الجيش الأثيوبي ورسم الخطوط الإستراتيجية لعملياته.
أسياس أفورقي الذي سجل سابقة في تأريخ
الدبلوماسية العالمية بتسليمه مفاتيح مبنى السفارة
السودانية في أسمرا إلى المعارضة السودانية بكل أوراقها
وأجهزتها ومراسلاتها وملفاتها الأمنية الحساسة عام 1994م،
هو نفسه أسياس اليوم ولم يتغير، مازال يفكر بعقلية قطاع
الطرق ولصوص المواشي، وليس عقلية الثوار، كما تصفه القطط
السياسية الأليفة دائما في محاولاتها المستميتة لتبرير
تصرفاته الطائشة بإسباغ نوع من القداسة الثورية عليها،
والشاهد على أن الرجل لم يتغير، ما قام به قبل أقل من
شهرين من إرسال قواته الخاصة لاختراق حدود دولة مجاورة
(إثيوبيا) والاستيلاء على معسكر اللاجئين الإرتريين في
إقليم تجراي وهم تحت حماية الأمم المتحدة وممارسة القتل
والتنكيل والاختطاف ضدهم في مخالفة غير مسبوقة لكل الأعراف
والقوانين الدولية وما يمثله ذلك من إهانة صريحة للمجتمع
الدولي
حتى الولايات المتحدة بالرغم من عدائها
الشديد لإيران، إلا أنها لم تجرؤ على انتهاك حرمة السفارة
الإيرانية كما فعل أفورقي بسفارة السودان، فما زالت
الحكومات الأمريكية المتعاقبة ملتزمة بحراسة وتأمين
السفارة الإيرانية في واشنطن من خارجها لأكثر من أربعين
عاما، لأن العرف الديبلوماسي يقتضي ذلك، حيث أن السفارة
تعتبر أرض سيادية للدولة المعنية بها، وكذلك فعلت دولة قطر
في أوج عدائها مع نظام بشار الأسد عندما منحت المعارضة
السورية حق تقديم الخدمات القنصلية لتسهيل حياة المقيمين
السوريين في قطر في مبنى منفصل بعيدا عن السفارة السورية
المعتمدة التي أمرت بإغلاقها وحراستها وتأمينها من الخارج.
إذً، لا شيءَ يمنع أفورقي من استخدام ما في
يده اليوم من مليشيات عرقية وجيوش لتركيع السودان واختراق
حدوده واحتلال مدنه الشرقية، مع ما يعنيه ذلك من قتل جماعي
للسكان المحليين وصولا إلى السيطرة على معسكرات اللاجئين
الإرتريين بشرق السودان كما فعل في إثيوبيا، لا ضمير ولا
أخلاق ولا اتفاقيات تمنع أفورقي عن العبث بوحدة السودان
وسلامة أراضيه وشعبه ما دام يملك القدرة على ذلك.
صحيح أن فرق القوة من حيث التسليح والخبرة
القتالية وسرعة الانتشار وحجم الموارد البشرية بين الجيشين
الإثيوبي والسوداني ليس كبيرا، فإثيوبيا تقع في المرتبة
السابعة والسودان في المرتبة التاسعة على مستوى الجيوش
الإفريقية، لكن من ينتصر في الحرب دائما هو الطرف الأكثر
حزما والأكثر تنظيما وتماسكا وليس الأكبر حجما، فالثوار
الفيتناميون انتصروا على الجيش الأمريكي عندما أصبحوا أشد
حزما وأكثر تنظيما بفضل وحدة القيادة والسيطرة لديهم، بعكس
الجيش الأمريكي الذي كان يقاتل ومن ورائه شعب يخرج إلى
الشوارع باكيا مع ظهور أي مشهد من مشاهد الحرب البشعة،
وكان الجنرال (فو نجوين جياب) يدرك نقطة الضعف هذه عند
الأمريكيين ونجح في استخدامها ضدهم بوسعي كامل وذكاء بيّن
وحولها تدريجيا إلى (كعب أخِيلْ) الذي أطاح بالجيش
الأمريكي ليخرج مهزوما من فيتنام، لا غبار طبعا على موقف
الشعب الأمريكي من تلك الحرب، بل على العكس، فهو موقف
أخلاقي بامتياز، لأن الجيش الأمريكي في فيتنام لم يكن إلا
قوة احتلال غاصبة.
حسب التحركات الأخيرة لجيوش الأطراف
المتقابلة وميلشياتها، والمناوشات العسكرية على الحدود،
فإن الحرب بين السودان وتيار الأباطرة الجدد الذي يقود كل
من إثيوبيا وإرتريا معا تبدوا على الأبواب، وإذا اندلعت
الحرب، لا سمح الله، فليس معروفا مدى تماسك الجبهة
الداخلية للسودان، وعما إذا كانت النخبة الحاكمة في
السودان برؤوسها المدنية والعسكرية وتياراتها السياسية
المتفرعة ونزاعاتها الخافتة ستكون على قدر المسؤولية وتؤجل
كل الملفات لحسم الحرب المصيرية من أجل الحفاظ على أمن
وسلامة السودان، أم أنها ستقع في فخ التلكؤ والنزاعات
البينية الصغيرة لتفسح المجال أمام الطموحات التوسعية
لأحفاد الأباطرة.
قبل ثلاث سنوات فقط، وبالتحديد في شهر
يناير 2018م، كان أفورقي شريدا طريدا، يعاني من العزلة
الدولية والإقليمية والمحلية، وكان خائفا على نظامه
المتهالك من انقضاض قوات الدعم السريع التي حركها السودان
من غربه وأعاد نشرها على حدوده الشرقية، وكانت قوات الدعم
السريع قادرة على ذلك، سواءً بالمواجهة العسكرية المباشرة
أو عبر دعم وتسليح أي جماعة معارضة لنظامه، لكن يبدوا أن
قائد قوات الدعم السريع الجنرال محمد حمدان حميدتي لم يحصل
على القرار السياسي لفعل ذلك من قائده عمر البشير، وأضاع
السودان حينها فرصة كانت ستحميه من النيران التي تحيط به
اليوم، تقاعس السودان عن إسقاط نظام أفورقي بسبب خلل واضح
في تقييم المخاطر والحسابات الإستراتيجية، على الرغم من أن
كل العوامل السياسية والعسكرية كانت في صالح الجيش
السوداني وقوات الدعم السريع في تلك الفترة، فالجيش
الإثيوبي الذي يقف اليوم في حلقوم السودان، كان سيقف
مساندا للسودان، أو على أسوء الافتراضات كان سيقف متفرجا
مبتهجا بسقوط أفورقي وانهيار نظامه، كما أن المجتمع الدولي
كان لا يزال غاضبا من نظام أفورقي ولم يكن ليذرف عليه
الكثير من الدموع لو سقط وغَرُبَ عن وجهه، عكس ما هو عليه
الحال اليوم بعد رفع الحصار عنه ومحاولات إعادة تأهيله بعد
توقيع اتفاق السلام المشبوه مع إثيوبيا، والنتيجة، أن
أفورقي تجاوز المحنة بقدرة قادر وعاش ليستأسد على السودان
ويتنمر عليه بعضلات الجيش الإثيوبي المستعارة.
وليس أمام السودان اليوم إلا التضامن
والتقارب مع مصر، للوقوف في جبهة واحدة أمام مغامرات
التوسع والتغول الإثيوبي، لأن أي تساهل أو تراخ أو تململ
من جانب أحد الطرفين السوداني والمصري سيكون ثمنه باهظا
على الدولتين والشعبين في مصر والسودان، ومعلوم أن إثيوبيا
لم تفكر طوال تأريخها بهذا البعد الإستراتيجي خارج الصندوق
ولم تأخذ في تأريخها مبادرات جريئة كما تفعل الآن.
ما يحتاجه السودان بشكل خاص ليس مواجهة
إثيوبيا عسكريا بالطرق التقليدية، ما يحتاجه السودان هو
تهدئة الأوضاع وعدم الانجرار وراء استفزازات المليشيا
العرقية بعد ضمان التمركز الإستراتيجي والاستعداد الكامل
للطوارئ، ومن ثم التنسيق والعمل لإحداث اختراق غير منظور
وغير متوقع من خلال قفزة الحصان، وتهديد حياة الملك،
وعندها فقط سيتجمد كل شيء، وتكون الجهود والمساعي منصبة
لإنقاذ حياة الملك، وسينهار كل شيء في لحظة واحدة، ليعود
الغزاة الإثيوبيون خلف جبالهم يلعقون جراحهم مائة عام
أخرى، كما فعلوا في السابق مرات ومرات، إن مركز الجذب، أو
خيط السبحة لهذا التحرك الإثيوبي التوسعي معروف ومحدد
تماما بالنسبة لصانع القرار في كل السودان ومصر، ولكن يبقى
السؤال عن مدى عزم القيادة السياسية في السودان وربما مصر
لاتخاذ خطوة محسوبة من هذا النوع.
إن كان إسباغ الوصف" دولة الخطيئة
الإفريقية" يليق بالدولة الإثيوبية الحديثة بناءً على
كيفية تَخَلُّقِها كدولة أنشئت على أطماع الأباطرة
المحليين في إفريقيا، فإن إسباغ مصطلح "القلعة المستحيلة"
بالمقابل يليق بدولة إرتريا بناءً على وقائع التأريخ.
منذ قديم الزمان قدر على الشعب الإرتري أن
تكون أرضه واقعة في خط التماس الذي تتحطم عنده أحلام
أباطرة إثيوبيا، وأن يتحمل أعباء التصدي لحملات التوسع
الإثيوبي التي لم تتوقف عبر التأريخ إلا في حالات الانكسار
والهزيمة لتستعيد أنفاسها وتعود من جديد، لقد حاول معظم
الأباطرة الاثيوبيون التوسع للاستيلاء على السواحل
الإرترية، لكن أحلامهم تحطمت في صخرة إرتريا المستحيلة.
ولم يشهد التأريخ أي فترة تمكن فيها
الأباطرة الإثيوبيين من الاستقرار على أرض إرتريا، حيث ظلت
الأرض الإرترية نارا تشتعل تحت أقدام الأباطرة الإثيوبيين
حتى تسقطهم من عروشهم في إثيوبيا، يوهنس وهيلي سلاسي
ومنجستو هيلي ماريام كلهم واجهوا نفس المصير، انهارت
عروشهم بسبب محاولتهم التوسع نحو إرتريا "المستحيلة"
والهيمنة على شعبها وإخضاعه.
قبل مقتله على أيدي الجيوش المهدية بفترة
قليلة، كان الإمبراطور يوهنس قد جهز حملة لغزو إرتريا،
وأقسم بأنه لن يعود إلى دياره، بعد انطلاق الحملة، إلا إذا
شرب حصانه المسمى(أبى بيزبا) وارتوى من مياه البحر الأحمر،
وبعث بقائد جيشه ألولا إنقدا إلى حملة استطلاع نحو إرتريا،
إلا أن حملة يوهنس التوسعية تحطمت قبل البدء في تنفيذها،
ويختصر حلم يوهنس المتعلق بحصانه المرتوي افتراضيا من مياه
البحر الأحمر، كل أحلام الأباطرة الإثيوبيين وخطل تفكيرهم
وتهافتهم فيما لا يملكون، فهذا الإمبراطور التعيس كان يجهل
أن الخيل عموما لا تشرب ماء البحر مطلقا كونه شديد
الملوحة، وفي كل الأحوال، لم يذكر التأريخ أي علاقة
للإثيوبيين بحياة البحار، لا أساطيل بحرية ولا أدميرالات
في تأريخ إثيوبيا، وعلاقة الإثيوبيين بالبحر عموما لا وجود
لها إلا في عقول الأباطرة القدماء والجدد، والإثيوبيون
عموما لا يعرفون تناول الوجبات البحرية، ويكرهون تناول
الأسماك بل يهربون من رائحتها، الجهل والاستعلاء ونكران
حقوق الشعوب المجاورة هو رصيدهم وزادهم الوحيد إلى البحر.
بالرغم من ماضيهم البطولي، وبالرغم من ضجيج الأحداث
الهائل حولهم والمتعلق بمستقبل دولتهم، إلا أن الإرتريين
لم يفيقوا من الصدمة بعد، وهم بحاجة إلى من يردد على
مسامعهم بعضٌ من أبيات الأغنية التراثية الإرترية المشهورة
" لقد تقرر أن يكون زواج البنت في يوم عاشوراء، لكنها لا
تعلم، فرجاءً لا تخبروها" وبالفعل، فقد تقرر مصير دولتهم
بتوقيع شخص واحد قبل سنتين، مع ما تخلل ذلك من احتفالات
وطقوس وتسليم مفاتيح وتبادل هدايا وإلباس خواتم، ولكنهم لا
يعلمون حتى الآن على ماذا تم التوقيع ولا يملكون القدرة
حتى على مجرد السؤال، على ماذا وقعت باسم دولتنا يا هذا؟
والواقع أن الإرتريين هم أكبر الخاسرين من مفهوم القرن
الإفريقي الجديد والحملات التوسعية المصاحبة له لأنه سوف
يمحوا دولتهم التي حاربوا لتحريرها ثلاثين عاما من الوجود،
ما حدث بين أبي أحمد وأسياس أفورقي هو بالمختصر المفيد
"عملية بيع وشراء" بيع شعب بكل ما تحمل الكلمة من معنى،
بيع شعب مع أرضه وسمائه وبحره وجباله وأنهاره، ومن يستطيع
أن يثبت عكس ذلك فليتفضل مشكورا.
ومن أغرب غرائب الجيل الحالي من الإرتريين
على عكس أسلافهم، أن ثلة منهم، سياسيين ونشطاء، وهم الفئة
التي يفترض بها أن تكون قرن الاستشعار لمصالح شعبها برفع
شعلة التنوير وتوجيه الشعب نحو الخطوات التي تضمن استقلاله
وحريته ومستقبله، إلا أن هذه الثلة للأسف تحولت مع الأحداث
الجارية في إثيوبيا إلى أضحوكة الزمان، منشغلة بل منهمكة
حد الاقتتال اللفظي، حول من يصطف مع من، اصطفاف أشبه
باصطفاف المريدين من أهل التصوف، لله فلله، لصالح الأطراف
المتصارعة في إثيوبيا، الاصطفاف وليس التحالف، إنه لأمر
صادم ومعيب أن يكون هذا هو حال النخبة السياسية في بلد
يتعرض شعبه لخطر وجودي.
ولكن الصورة ليست بهذه القتامة، فالغالبية العظمى من أبناء
وبنات الشعب الإرتري يعيشون حالة من الصدمة الممزوجة
بالخوف والغضب والترقب، وهو مؤشر واضح بأن هذا غليان صامت
سينفجر حتما وسيكون انفجاره عظيما، ليشكل اللحظة التأريخية
الفاصلة بين ماضي الاستغلال والقمع والإذلال وبين مستقبل
الحرية والكرامة الإنسانية والوطنية، الحرب قادمة لا
محالة، وخيار الإرتريين الوحيد هو التأهب والاستعداد لتلك
الحرب ببناء قوتهم الذاتية وتنظيم مواردهم المادية
والبشرية والشروع في المقاومة الحقيقية على الأرض ضد الظلم
والعدوان ومشاريع التوسع والهمجية، بغض النظر عمن ينتصر في
حرب الأطراف المتصارعة في إثيوبيا، لو انتصر الأمحرا فإنهم
سيبتلعون إرتريا بمشروعهم القومي التوسعي المعلن، ولو
استطاع التجراي إعادة التوازن لصالحهم فإنهم ربما يفكرون
في التوسع شمالا وإحياء نسختهم الخاصة من مشروع التوسع تحت
عنوان " تجراي تجرينيا"، مع ملاحظة أنه لم يصدر حتى الآن
أي توجه رسمي من قبل قيادة الجبهة الشعبية لتحرير تجراي في
هذا الاتجاه، وطوال وجود تلك القيادة على هرم السلطة في
إثيوبيا كانت تكرر تأكيدها على احترام استقلال إرتريا
واعتبار ذلك مسألة منتهية لا جدال حولها، لكن إذا وجدوا
ضعفا وتهاونا من جانب الشعب الإرتري فربما يفكرون في ذلك
مستقبلا وكما يقال، المال السائب يعلم السرقة، ومن مصلحة
شعب التجراي والشعوب المجاورة أن تعلن النخبة السياسية في
تجراي، وقيادة الجبهة الشعبية لتحرير تجراي بشكل خاص، في
هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها المنطقة، أن تعلن بشكل
رسمي احترامها لسيادة إرتريا واستقلالها وسلامة أراضيها،
والتزامها التام بالقانون الدولي المتعلق باحترام سيادة
الدول في هذا الشأن، إذا كانت ترغب فعلا في علاقات حسن
الجوار التي تتسم بالاحترام المتبادل والخالية من الشكوك
بين شعب التجراي والشعب الإرتري، وذلك لإزالة الضبابية في
موقفها من سيادة واستقلال إرتريا التي نتجت عن سماحها
لمجموعات الأجازيان العنصرية القومية بالظهور على وسائلها
الإعلامية في الآونة الأخيرة، أما القوميون الأمحرا، الذين
يحركهم أفورقي لتحقيق طموحاته التوسعية فلم يعترفوا
باستقلال إرتريا وسيادتها من الأساس، وكانوا يعبرون عن
ذلك، وهم في ضيافة أفورقي في أسمرا بأن إثيوبيا لا يمكن أن
تعيش بدون إرتريا، كما يكررون دائما بأن شكل إثيوبيا في
الخريطة الجغرافية يشبه شكل الدجاجة المذبوحة بعد فصل
إرتريا عنها، ويذرفون دموع التماسيح حول تلك الدجاجة
المذبوحة.
يفترض بشعوب كثيرة تقع في الجوار المباشر
للأمحرا مثل الأرومو والعفر وبني شنقول وحتى التجراي
وغيرهم، التعاون لمقاومة الهيمنة القومية للأمحرا وعدم
السماح لها بالعودة إلى بلادهم مرة أخرى، وسواءً نهضت
الشعوب المضطهدة عرقيا في السابق أو تلك المهددة بالاضطهاد
مستقبلا داخل إثيوبيا وخارجها لمقاومة مشروع التوسع
والهيمنة العرقية التي يسوق لها أفورقي وأبي أحمد
وميليشياتهم أو قررت الخضوع والتعايش معها أو العيش تحتها
كما فعلت في السابق، فإن على الشعب الإرتري جنبا إلى جنب
مع الشعوب والحكومات المجاورة لا سيما في السودان ومصر أن
يسمح بذلك، لأن إطلاق العنان للطموحات التوسعية الإثيوبية
يعني دمارا شاملا للشعوب المجاورة.
توعد الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن
الأنظمة الديكتاتورية التي عاشت شهر العسل مع إدارة ترامب،
قائلا، لا مزيد من التدليل للدكتاتوريين، وقد تمتع نظام
إسياس أفورقي في إرتريا، بالفعل، بغطاء كامل ومكافآت كبيرة
طوال فترة الرئيس ترامب، حيث تم اخراج نظامه من العزلة
الدولية ورفع عنه الحظر بدون مقابل، بمعنى أنه لم يكن
مطلوبا منه تقديم أي شيء مقابل رفع الحظر عن نظامه، يكفي
أن صقور اليمين قاموا بتقييم أداءه خلال العقود الثلاثة
الماضية ووجدوا أن أدائه في محاربة "الإرهاب" في إرتريا
والقرن الإفريقي عموما كان متميزا، كما أنه الضامن الفعلي
لتحقيق مشروع القرن الإفريقي الجديد لأن مفتاح إرتريا لا
يزال في يده، وكانت مكافأته أن تم رفع الحظر عن نظامه
وتحول نظامه بين عشية وضحاها من متهم بجرائم ضد الإنسانية
وتهديد الأمن والسلم الإقليمي ودعم القراصنة وتسليح حركة
الشباب المجاهدين في الصومال إلى حليف موثوق في محاربة
الإرهاب وعراب للمشاريع التوسعية الإقليمية.
ربما لن يصدق الناس ذلك، ولكن الحقيقية هي
أن أسياس أفورقي كان قاب قوسين أو أدنى من الترشح والحصول
على جائزة نوبل للسلام بجانب رفيقه أبي أحمد، ولكن، قيل
لهم، عيب أن يتم تسليم جائزة نوبل للسلام لرجل لم تجف يداه
من دماء الضحايا بعد، وتم تعويضه وترضيته بقبول نظامه كعضو
عامل في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ليكون
“حاميها حراميها" طبعا.
هناك مؤشرات جديرة بالملاحظة تنبئ بأن نظام
اسياس أفورقي، في الغالب، لن يكمل السنة الأولى من رئاسة
بايدن، وهذه المؤشرات لا تنحصر في رفع الغطاء عن نظامه
كليا أو جزئيا من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة، إنما
هناك عوامل ذاتية تشير بوضوح إلى أن انهيار نظام إسياس
أفورقي على الأبواب، وعلى رأس هذه المؤشرات تآكل نظامه من
الداخل ووجود حالة احتقان داخلي غير مسبوقة في نظامه،
بالإضافة إلى خسارته الكاملة والنهائية لأي نوع من أنواع
الولاء أو الثقة من قبل الجيش والشعب الإرتري بسبب مواقفه
المشبوهة من استقلال إرتريا وسيادتها، وإظهار ولائه الواضح
للأنظمة الإمبراطورية في إثيوبيا، أضف إلى ذلك الانعكاسات
السلبية المباشرة على نظامه بسبب دوره الهدام في الصراع
الاجتماعي الدائر في شرق السودان، وموقفه المشبوه في دعمه
وإسناده وتحريضه لميلشيات الأمحرا ضد الجيش السوداني،
بالإضافة إلى تردي علاقته في الآونة الأخيرة من الحكومة
المصرية، علما بأن السودان ومصر لعبا دورا كبيرا في بقاء
نظامه متماسكا وبالذات في السنوات القليلة الماضية وكانت
الدولتان تمثلان شبكة الأمان الحقيقية لحماية نظامه من
الانهيار في وقت مبكر.
كما أن هناك مؤشرات أخرى لا تبدوا بذات أهمية العوامل
السابقة ولكنها مجرد مؤشرات يمكن أن تحظى بالاهتمام لدى
الأشخاص الذين عاصروا سقوط نظام منجستو هيلي ماريام،
فالعام 2020م بالنسبة لنظام أفورقي كان شبيها إلى حد بعيد
بالعام 1990م بالنسبة لنظام منجستو، والعام 2021 سيكون
أشبه بالعام 1991م السقوط المفاجئ والمدوي من حيث لم
يحتسب، كما أن سلوك وتصرفات نظام أفورقي في هذه السنة
تحديدا أشبه بسلوك وتصرفات الإمبراطور يوهنس في العام
1888م قبل تعرضه للهزيمة المذلة والموت المهين في مارس من
العام التالي، ومن شابه أباه فما ظلم.
وإذا أضفنا إلى كل ذلك وجود تحرك جدي من
قبل طرف إرتري معارض لإطلاق مقاومة حقيقية على الأرض ضد
نظام أفورقي فإن الخلاصة التي يمكن الوصول إليها هي أن
مؤشرات انهيار نظام أسياس أفورقي هذا العام أكثر بكثير من
مؤشرات استمراره وبقائه، ولا حاجة إلى التذكير بأن مفهوم
القرن الأفريقي الجديد والمشاريع التوسعية لعرقية الأمحرا
ستكون في خبر كان في غياب العراب الأصلي.
30 ديسمبر 2020م
|
|
|
|
|