منبر الحـــــوار

 

وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح
2008/05/02
من ارشيف عونا

 

 

 
 
 

 

الكادر السياسي عندما يكون إمعة
 


تطلق كلمة الكادر على ذلك الشخص المؤهل بقدرات مكتسبة، وأخرى ذاتية، للقيام بعمل ما، وقد يكون هذا العمل مجرد عمل إداري، أو طبي، أو تربوي تعليمي، وقد يكون عملا سياسيا، ومن هنا كثيرا ما نسمع مصطلح الكادر مقرونا بنوع العمل المهني، أو الاحترافي الذي يمارسه الفرد، فهناك الكادر الإداري، وهناك الكادر الطبي... وهناك الكادر السياسي، وما يهمنا هنا في هذا المقال أو المقام هو الكادر السياسي، ونعني به الصفوة القيادية التي ترسم رؤية الكيان السياسي، وتمرحل خطوات سيره، وفق خطاب سياسي، تصوغه على نحو يؤثر في الجماهير المخاطبة، من أجل إقناعها برؤية هذا الكيان السياسي، في حل الإشكاليات التي تواجهها، بمختلف عناصرها وتعقيداتها المتداخلة.

وبهذا المفهوم ليس السلم القيادي للكادر على درجة واحدة من الأهمية، وإنما هو على مستويات ودرجات متباينة، بعضها فوق بعض، فهناك الكادر القيادي المتقدم، وهناك الكادر المتوسط، وهناك الكادر المبتدئ، والترقي من مرتبة إلى أخرى أهم منها لا تتحقق إلا وفق معايير موضوعية تتطلبها طبيعة العمل، وقد درجت الاتجاهات العقدية على وجه الخصوص أن تهتم بمسألة تكوين كادر مقتدر، يقودها نحو وجهتها برشاد، ويحمل رسالتها وينافح عنها باقتدار، وذلك من خلال تأهيله عبر دورات تعقدها، ونشرات توعوية خاصة توزعها داخليا، وأركان نقاش تقيمها.

حزب الجبهة الشعبية للعدالة والديمقراطية هو واحد من هذه الاتجاهات العقدية، ذات الصبغة الشيفونية، والنهج الديكتاتور الطائفي، التي أولت هذه المسألة اهتماما كبيرا، وكان التنظير الماركسي هو المنطلق الذي ظل يشكل رؤية سياسية يتأسس عليها كادر الحزب، وينطلق للتبشير بها في أوساط الشعب الإرتري، وبناء التنظيم، وذلك منذ تكوين قوات التحرير الشعبية التي تحولت لاحقا إلى الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، بقيادة (حزب الشعب الماركسي) الذي تأسس عام 1966 م وحل عام 1989 م حسب تصريح الرئيس إسياس أفورقي في جريدة الحياة 19/3/1994م.

المطلع على التثقيف السياسي للجبهة الشعبية لتحرير إرتريا الجزء الأول والثاني، يجد بروز المنهجية الماركسية في تحليل المجتمع الإرتري واضحا بشكل قوي، وبعد أن تحولت الجبهة الشعبية إلى حزب باسم (حزب الجبهة الشعبية للعدالة والديمقراطية) بدت وكأنها لم تتحلل من الفكر الماركسي بشكل كلي، وما زالت وفية له، وبالذات فيما يتعلق بتطبيق العدالة الاجتماعية، وصار قادتها يدعون ذلك ويزعمونه في لقاءاتهم الصحفية، غطاء لهيمنتهم الشوفينية والطائفية، ففي جريدة الحياة، التأريخ المذكور أعلاه أكد أفورقي نفسه أن ما بقي من أطروحات حزبه الماركسي المحلول هو (العدالة الاجتماعية) !! إلا أن الحزب أخفق كامل الإخفاق في تسيير شأن الدولة، بل في بناء مؤسسات الدولة، وسجل فشلا أكبرا في تحقيق (العدالة الاجتماعية) ولم يعد هناك حزب بالمعنى المؤسسي الحقيقي للحزب، فضلا أن تكون له نظرية تسيره أيا كانت طبيعتها، وهكذا ارتد الأمر من الجماعية إلى الفردية، ومن الوطنية إلى الطائفية المشوبة بعصبية تجرنياوية، إذ اختزل كل شيئ في شخص الرئيس في ظل هيمنة شوفيينية التجرنية على المستوى الثقافي، والسياسي، والاقتصادي، وأمسى الشوعيون الأوائل من القوميات الأخرى إما مهمشون أو محنطون في متحف التأريخ، كالدمى الفرعونية، قانعون بلقب (أبوي ثورى) لمن آثر منهم السلامة، ولزم عتبة داره، واكتفى بهذا اللقب من جملة نضالاته، يوقعون في نهاية كل شهر على مقدار من المرتبات المخصصة لهم، والتي للأسف تؤخذ من عرق العمال الكادحين في دول الخليج، التي طالما أنشدوا لها الأناشيد الثورية، ثم تخلوا عنها وعن الوعود التي تغنوا بها، أو مرميون في السجون إذا ما فتح الواحد منهم فاه بالنقد، محتجا على هذه الهيمنة الشوفيينية الديكتاتورية، كما حدث لكادر الحزب وقادته إدريس أبو عري، ومحمود شريفو، وصالح كيكيا، وهيلي ولد تنسئي، وغيرهم كثر، وآخرون من هؤلاء الشوعيين وفدوا إلى الجبهة الشعبية من خارجها، لكنهم تحولوا في نهاية المطاف إلى باعة كتب، ومعلمي لغات، وأصبحوا يجسدون الهزيمة في أبلج صورها، وربما اكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم كانوا مطايا مشروع شيوفوني، مغلف بالمنجل والمطرقة، يرونه الآن رأي العين، بارزة أمامهم معالمه الحقيقية، ولا يملكون نقده، متمنين أن لو كانوا يعلمون الغيب، لما لبثوا في خدمة هذا المشروع سنين طويلة، تماما كما ندمت الجن يوم اكتشفت موت سليمان عليه السلام، وكانت تعمل بكل طاقتها معتقدة أنه حي يراقبها.

إزاء هذا الوضع الشيفوني أضحى الكادر في الجبهة الشعبية بكل مستوياته مجرد مظهر ديكوري، لا وزن له ولا أهمية تذكر، كل ما يسند إليه لا يعدو أكثر من تنفيذ ما يؤمر به، وتبرير مواقف الرئيس، والدفاع عن سياساته الفردية، والترويج لها، وجمع المعلومات عما يقال في جلسات المآتم، وحفلات الزواج، ومقاهي السمر، بالإضافة إلى طرق أبواب المنازل لجمع الهبات، باسم حماية الوطن من الغزو الخارجي، وبهذا فقد الكادر دوره الريادي، ليتحول إلى مجرد جامع إتاوات، يخوف الناس، ويرعبهم، إمعة ليس له من الأمر إلا ان يطاطئ رأسه، ويلغي عقله، وبات مرعبا في حد ذاته لا يجرؤ أبدا على النقد، إلا في الحدود المرسومة له، لأن كل من انتقد متجاوزا الخطوط الحمراء حلت به اللعنة الأسياسية، ومن حلت به اللعنة الأسياسية كان السجن مأواه، والقبر مثواه.

وولدت هذه الحالة بدورها تفشي الوشايات، وفرض الوصايات، وبروز الوصوليين المتملقين، أدعياء الإخلاص الثوري، والزهد الوطني، الذين يرضون لأنفسهم بالدونية، لكونهم لا يستطيعون تحقيق مكاسب ذاتية خارج هذه الحالة الشاذة، والبيئة الملوثة، لذا لا يهدأ لهم بال من غير أن يخنقوا الأفكار التجديدية النقدية التي يمكن أن يبوح بها الكادر الناقد أحيانا على خوف واستحياء ساعين إلى الوشاية به.

وانطلاقا من هذه الحالة بكل ما تفرزه من مظاهر ضارة، وتأسيسا على معطياتها؛ يمكننا تصنيف الكادر بشكل عام إلى كادر (ناقد) و(جامد) و(حاقد) وبشيئ من التفصيل سأبسط الحديث عن كل واحد منهم فيما يلي:

· الكادر الناقد.

الكادر الناقد هو الكادر الذي يقدر العقل، ويتعامل مع الفكر، ويتفاعل مع الحوار العقلاني المنطقي، مهما بلغ حدا من التعصب المذهبي أو العقائدي، أو الحزبي في ذاته، ولا يرضى لذاته أن يجعل منها ظهر حمار يركب، فهو يتطلع دائما إلى التحرر في ضوء القناعات الفكرية التي يحملها ويؤمن بها، وينشد التغيير الإيجابي بشكل مستمر، وينحاز دائما إلى مصلحة المجتمع كما يراها، ويقوم بتحليل وغربلة كل ما يقال له، ويرسل إليه، من تعميمات وتعليمات، ويسجل مواقف تأريخية لحظة الضرورة الملحة والمناسبة، في سبيل المبدأ الذي يؤمن به، لكن ليس بالضرورة أن تكون هذه المواقف التأريخية تنحصر في النطق بكلمة حق أمام حاكم جائر، يذهب ضحيتها سجينا، أو قتيلا، وإنما قد تكون بالإنسحاب من حالة الذيلية والتبعية التي يراد له أن ينساق لها، ويلمسها بأم عينيه، على النحو الذي يأمن به بطش الإمام الجبار، إذ ليست التضحية بالذات مطلوبة لذات التضحية، وإنما لأهداف وغايات وطنية سامية، قد تكون حياته لها في لحظة بعينها، صامتا منحازا إلى ركن آمن، أفضل من مماته أو سجنه في سبيلها، أو بمعنى آخر هو الذي يعرف متى يموت أو متى يحيا في سبيل فكره.

ولأن الكادر الناقد يمارس النقد العلني البناء، متى ما وجد الظرف مناسبا، والفرصة متاحة، ملتزما سلوكياته الراقية، نجده دائما لا يتضايق أو يتضجر من النقد لآرائه وأفكاره، لإيمانه اليقين بأن النقد الملتزم مظهر حضاري لا بد منه في الرقي بالشعوب، ولهذا نراه يستعذب الحوار، ويحاول أن يحدد محاور الإلتقاء، ليجعل منها محل وفاق وطني، ويؤجل محاور الخلاف إلى حين مناسب، ولا يحاول أبدا نفي الآخر أو تذويبه في ذاته، أو رميه بالتهم، وتشويهه بالأباطيل، لكون ذلك لا يمكن ان يكون إلا وفق رؤية قمعية، تؤسس حتما لمشروع ديكتاتوري، طائفي، شوفيني، أو آحادي فردي، لايهمه هذا ولا ذاك، وهذا ما يتنافى مع منهجيته.

إن هذه الخصائص الإيجابية في الكادر الناقد تجعل منه محل سخط وعدم رضا من القيادة الديكتاتورية أو الطائفية، وتعرضه دوما للعزل والتهميش بشكل وآخر، قد يصل إلى تلفيق التهم الباطلة بحقه، أو سحقه أخلاقيا، من اجل تبرير الرمي به في أغبية السجون والمعتقلات، تخلصا منه بكل ما يحمل من أفكار تحررية، ليحل محله كل من الكادر الجامد، والكادر الحاقد، ويشكلون معا جوقة تطبيل وتزمير، تضفي على الديكتاتور هالة من القداسة، وتكيل له المديح تباعا، وتجعل من ظلمه عدالة، ومن قمعه رحمة، ومن هزائمه انتصارا، وتتماهى في ذاته وسلوكياته، وهذا ما يستمتع به الدكتاتور طبعا ويعجب مزاجه، وتتعالى به معدلات غروره وزهوه، حتى ليخيل إليه أنه القائد الملهم، مختار العناية الربانية لحماية الوحدة الوطنية، وراتق ما انفتق منها، وصمام الأمان الوحيد، وبغيره ستغرق البلاد في وحل من الدماء، وحالة من الاقتتال الدائم والمدمر، وتبقى في التخلف الأبدي.

والموقف الإيجابي من الكادر الناقد يتمثل في فتح قنوات الاتصال به، وإشعاره بأن ثمة من يشاركه الرأي، وليس وحده في الخندق، فهناك الكثير ممن يحمل همه، ويلتقي معه في إطروحاته الإصلاحية، بغض النظر عن انتمائه الحزبي أو الفكري، انطلاقا من ان الخلاف في سبيل إرساء قيم الحرية والعدالة يعني اتفاقا، أي أنه من نوع خلاف التنوع، وليس من نوع خلاف التضاد والتناقض، ولعل في الحلقات القادمة أفتح صفحات حوار مع هذا الكادر الناقد في الجبهة الشعبية دون أن أشترط عليه التجاوب معها خطيا، فهو أدرى بحاله وأنا أتفهم وضعه!!..

· الكادر الجامد.

الكادر الجامد هو الكادر الإمعة الذي لا شخصية له، أينما توجهه يتوجه، إن أحسن الرئيس يحسن، وإن أساء الرئيس يسيئ، لا يحمل الفكر، وإنما تسيره التعبأة الخاطئة، فهو أشبه ما يكون بإنسان آلي يوجه بجهاز التحكم من بعد، ليس له قابلية ذاتية للتحرر من حالة الامتهان التي يعيشها، لا صلة له بالفكر ومصادر الفكر، وهو عبء على مولاه، إن تحمل عليه يلهث، وإن تتركه يلهث، تتسم سايكلوجيته النفسية بأخلاقيات النفاق والمزايدات، ويمارس هذا الجانب من السلوكيات بنفس ممتهنة راضية بالدونية والاحتقار، ترتعد فرائصه من رئيسه، وينحني خوفا من نهره وزجره، كل ما يستهويه هو الرقص والطرب، أبلغ وصف يستحقه هو ( أبو جوليا).

المنهج الإعدادي لهذا النوع من الكادر الجامد منهج تلقيني، يهدف إلى تعميق وتكريس حالة (الأمعية) في نفسية الكادر الجامد ـ والأمعية تعني سلب الذات شخصيتها ـ يقوم على التعبأة المتتالية، إذ يخضع لكم هائل من المحاضرات التحريضية، ذات الخطاب الديماجوجي، التي تقتل فيه الرجولة، وحاسة اليقظة، ولأنه يفتقد في ذاته العقلية التحليلية النقدية التي تمكنه من الموازنة بين ما يقال له، ويستمع إليه، في قاعات التعبأة، وبين ما هو واقع ومشاهد فعلا، نجده دائم الاستعداد النفسي للانسياق الأعمى.

وفي غياب الكادر الناقد وإرهابه يطفو على السطح الكادر الجامد، وتكون له الصدارة في المجالس، والوجاهة في المكاتب، وهو ما يمكن أن نسميه بإسناد الأمر إلى غير أهله، ومع ذلك ليس كل الكادر الجامد في درجة واحدة من الجمود، بل إن منهم من له قابلية الصحوة، لكن لسذاجة في نفسه تنطلي عليه كثير من الأمور، ويضلل عنها، فيندفع على جهل وحماس كبير في أداء المهام المسنودة إليه، إلا أنه قد يفيق في لحظة من اللحظات ليصحح من وجهته الخاطئة، وليمارس حقه في (البيرسترويكا) و(الجلاسنوست) أي إعادة البناء، والنقد الذاتي، على غرار ما فعل جورباتشوف في الحزب الشوعي السوفياتي، من غير أن يعني ذلك وصف جورباتشوف بالسذاجة، ومن غير استبعاد أنه ممن صحا بعد غفوة ساذجة أيضا.

هذا النوع من الكادر الجامد الساذج، يعتبر الاقتراب منه ضروري، وتوعيته لازمة، ومخاطبة ضميره الوطني بين الحين والآخر مطلب أساس في النهوض بوعيه، فربما كان هو جورباتشوف الشعبية، لأنه متى ما انكشفت له الحقيقة عاد إلى رشده، حيث يعمل بإخلاص وطني، وله قابلية العدول عن الخط المنحرف، ولعل المحاورة التي أنوي بدأها مع الكادر الناقد تساهم في استنهاض الكادر الجامد، وتفتح أمامه آفاق التفكير الجاد للخروج من حالة الإمعية التي يعيشها.

ولكن حتى ذلك الحين أقول له: من الممكن أن يكون الإنسان ساذجا، توظف طاقاته لأهداف تخريبية، ذات نزعة ديكتاتورية وشيفونية لفترة من حياته، ولكن من المستحيل أن يبقى الإنسان ساذجا طول حياته، يعمل ضد مصلحته، تسخره توجهات شوفينية لمآربها الخاصة، و تركبه نزعات طائفية، وكأنه حمار يحمل أسفارا ( كتبا)، تخدعه الشعارات الكاذبة، وعليه أتساءل: حتى متى سيبقى هؤلاء الأوفياء الصادقون الساذجون من أصناف الكادر الجامد في الجبهة الشعبية يطرقون أبواب البيوت لتهديد الناس وتخويفهم إن لم يقدموا لهم مقدارا من المال، وحتى متى سيبقى هؤلاء المخلصون الذين يطلق عليهم الشوعيون وصف ( المغفل النافع) مجرد أشخاص تسخرهم الشيوفيينية الحاكمة باسم الغيرة الوطنية وهم لا يشعرون، ليس لهم من الأدوار إلا طرق أبواب المنازل، ونقل ما يقال في جلسات المآتم، وحفلات الزواج، من نقد منطقي وواقعي للحالة المزرية الماثلة أمام الجميع، والتي تعاني منها بلادهم؟!!

أظن أن إنسانا يمتلك مقدارا من الوعي الوطني لا يرضى لنفسه أن يكون غوغائيا بهذا الشكل، يلعب هذا الدور غير المناسب لإنسانيته، وغير اللائق بوطنيته، وعليه أن يحاول القيام بعملية نقد ذاتي لنشاطاته أولا، ثم بعد ذلك نقد موضوعي للواقع الشوفيني القائم، لا ليتركه نهائيا ولكن ليحرره من هيمنة الديكتاتورية ونزعتها الشيفونية، وليرتقي به من ثم إلى عمل مؤسسي، يعلي من شأن المواطن الإرتري، ويمنحه حريته الحقيقية، وحقوقه المسلوبة، وبهذا يبني وطنا تسوده العدالة، وتعمه الحرية، ويأمن فيه الجميع من الجوع، والخوف.

· الكادر الحاقد.

أما الكادر الحاقد فهو الذي تحركه جملة من الأحقاد التي لا نهاية لها، بكل ثقلها وتراكماتها وتنوعاتها، إلى الحد الذي لا يتمكن فيه من التوقف لحظة، للتفكير النزيه، بالرغم من أنه قد يمتلك قدرات التفكير، لكنه من ثقل الأحقاد التي يحملها يمضي في طريق الغواية، وهو على وعي بخطورة طريقه عليه، وعلى المجتمع، وعلى الحزب الذي ينتمي إليه أيضا، تدفعه إلى ذلك جملة عقد نفسية، من نحو تصفية حسابات جهوية، أو عشائرية، أو طائفية، أو طبقية، أو تنظيمية، أو الشعور بدونية اجتماعية، ينفث سموم الحقد، وينشر ثقافة الكراهية التي شحن بها، وتراه يجترها كلما وجد إلى ذلك سبيلا، وكثيرا ما يستغل فيه الديكتاتور هذه العقد التي تعميه، فيتخذ منه بوقا، ويتخذ منه جلادا، ويتخذ منه جزارا، ويتخذ منه جبارا، ويتخذ منه مخبرا.

هذا النوع من الكادر يمثل أكبر عائق في طريق الخلاص الوطني، من قبضة الديكتاتورية، ونهجها الطائفي، لكونه حاقدا في ذاته، انتقاميا في سلوكياته، شرسا في خصومته، معقدا في نفسيته، يعتمد القمع، ويؤيد القمع، ويمارس القمع، فهو الجلاد الأول، وهو السوط الأقوى في يد الجلادين، وهو الزنزانة المظلمة بكل ما فيها من فنون التعذيب النفسي والبدني، وهو النقال الأعظم، الخاوي من أدنى مروءة إنسانية، يتتبع مجالس الناس وأحاديثهم، وسقطات ألسنتهم، لينقل إلى سادته ما يقولون، يحمل الحقد على كل من لم يساير خطه السياسي، ويطلق لسانه ليصف الآخرين بالعمالة، والخيانة، والإرهاب، والطابور الخامس... إلى غير ذلك من المفردات الجارحة التي يسمعها من فم الرئيس ويتربى عليها، ويرقص على أنغامها، وقديما قيل: إذا قام رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت الرقص، وطبيعي أن يكون ابن البط عواما.

وأفضل وسيلة للتعامل مع هذا الصنف من الكادر الحاقد محاصرته اجتماعيا، بكشف مكايداته، وتعرية أساليبه، وتسليط الضوء على نفسيته المعقدة، وتحليلها تحليلا علميا، وخلفيته التأريخية، وسيرته الاجتماعية، وتوعية الناس بمخاطره، حتى يأخذوا حذرهم عند كل مسجد، ومعبد، ومأتم، ومحفل، ومقهى، ومطعم... والسخرية منه بتحويله إلى نموذج للإخفاق والفشل، والعقد النفسية، والدناءة، والخسة، باعتباره وباء اجتماعيا، يمكن أن يصيب الآخرين بالعدوى، ومن ضروريات الطب الوقائي كرتنته في (الكرنتينة) سلامة على حياة الآخرين ونفوسهم من العقد التي تحركه وتحدد وجهته الإفسادية.