منبر الحـــــوار

بقلم :أحمد شريف

2021/01/10

 

 
 
 

 


بِعُيونْ سَعيدة
 

 


أبلغ ما كشفته (الاستقالةُ) التي تقدم بها المديرُ العام للمركز القومي للمناهج والبحث التربوي الدكتور (القراي) للرأي العام، أنَّ الرجلَ لم يتبوأ مكانَه المناسب، أو الكرسي الذي يشبهه، بغض النظر عن الفكر السياسي التي ينتمي إليه، أو الجامعة التي منحته شهادة الدكتوراه.
كما أن قرار رئيس الوزراء (حمدوك) بتجميد المناهج الدراسية المطروحة، وتشكيل لجنة لإعداد مناهج جديدة (فقط لا غير)، على خلفية الاعتراضات الشعبية الصادقة الهادرة، بشأن رؤية (الرجل) في المنهج التربوي التعليمي لبلد عريق، علَّم أصولَ فقه المناهج والتربية لدولٍ وأممٍ. الحادثان أكدا أن أهداف الثورة الشعبية التي أطاحت بالحكومة السابقة، لم يتم تجاوزها كلها بالمرة في زمن الغفلة السادرة، رغم ارتفاع سقف التخبط المشاهد هناك وهناك، سيما المصاحبة لحركة الحكومة الانتقالية، ورغبات وتطلعات الثائرين التي لم تتقاطع مع كثير منها.
قرأتُ رسالة (الاستقالة) المكونة من (747) كلمة بعناية فائقة، وخلصتُ أن اسم المستقيل، بحاجة ملحة إلى تصدُّره بحرفٍ من حروف النفي (مَا) أو (لاتَ) أو كلاهما معا ؛ ليصبح اسمه (د.عمر ما قرَّاي) أو (د. عمر لاتَ قرَّاي) حتى يكون الاسم مطابقا له؛ حيث للمرأ حظٌّ من اسمه، كما ورد في الأثر!!
الدكتور ذكر في حيثيات تبريره في تولي المنصب العام أولا، ومن ثم استقالته لاحقًا، وأقتبس "لأنني كنتُ من الدعاةِ لقيام هذه الثورة، والحريصين عليها" أهــ، لكنَّه من حيث يدري أو لا يدري، وقع في شر استقالته كتابةً وقراءةً. حيث انتهاكه بحرص ثالوثَ شعار الثورة (حرية – سلام - عدالة) كلها مرة واحدة عن قصد!! معلنا في أول فقرة من (فضيحة) استقالته، الكاشفة الفادحة بينه وبين موجة الشعارات، التي جاءت به مع غيره على صهوة جياد الثورة، أوضح أنه في حل من حرية الشعب، وسلام قراراته، وعدالة خيارات الجماهير أيضا.
يتضح ذلك جليا، في ترسانة لغة الهجوم المغاضبة التي بنى عليها قرارَه الكاشف، راميا بها عن يمين وشمال، وجهَ الحكومة وخصومَها ومناصريها والمحايدين، سيما أولي الضرر. وكال أيضا من لغة التحرش غير الحصيف، بشخصية دولة رئيس الوزارء المكلف! ليس هذا وحسب، بل صب جام غضبه وتوتره، إلى الشريك التنفيذي (المجلس العسكري) أي قوات الشعب المسلحة، بما يشابه تهورات نزوات الشباب. ولم يك غريبا أن أصدر الدكتور حكمه، بأن تحلت دولةُ الرئيس أمامها بـ "الضعف امام المكون العسكري"، على حد زعم الدكتور (المستقيل). وجنوحه أيضا إلى أسلوبٍ، لا يشبه أساليب الاستقالات الرزينة المحترمة المعهودة، في مثل هكذا منصب هام وخطير من ناحية، ولا تتقاطع مع لغة الفكر السياسي التي عرفناها عن قرب (فكر الجمهوريين) بفترتيه قبل وبعد حياة الأستاذ/ محمود محمد طه، من ناحية أخرى!!!
الرجل الذي قِيلَ عنه أنه الـ (قرَّاي) – فضَّل بإرادته كما رشحت في استقالته تلك - أن تكون لغته، لغة (شوارع) لا لغة (الشعب) الذي تغنى بثورته وتضحياته. حظه العاثر مع الأسف وضعه في محك سحيق، تمثل في تولي منصب هام (التربية والتعليم) لبلدٍ، يحتكم بالفطرة إلى قيمٍ دينية خاتمة، ومُثُلٍ وأعرافٍ اجتماعية صلبة، تعارف عليها أهلُوه، وتناقلته الأجيالُ كابرا عن كابر. لقد أصطدم الرجل المستقيل مع أمة تاريخ مجد السودان، ذو التاريخ العريق في سجل التوجيه والإرشاد، وناطح الدكتور بقرنيه الداخلي والخارجي، جدارا لا يسطيع أن ينقض أمامه.
وعطفا على ذلك، وإدراكا لتلك المسلمات الاجتماعية والثقافية لمعلم الشعوب (الشعب السوداني)، أصرخ في وجه (القراي)؛ لأنه يجيد فن الاستماع إلى الصراخ والعويل فقط. لقد كان رواد الفكر اليساري بشقيه الشيوعي والاشتراكي، يضعون تلك الميزات الاجتماعية والدينية للشعب السوداني، في بؤر اهتماماتهم. أذكِّرُ بحديث أحد الأصدقاء الخلص، لما أهدانيه قبل أيام هذه المعلومة، منسوبة لأحد رابع أربعة نشروا الفكر اليساري في المنظومتين العربية والأفريقية، الفقيه القانوني الأستاذ/ أحمد سليمان المحامي، رحمه الله، صاحب الكتاب العَلَم (مشيناها خطى)، قال لي الصديق، أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، كانوا يرفعون أو يعلقون اجتماعاتهم السرية والعلنية، بمجرد رفع الأذان لصلاة مفروضة، بل هناك من يتوجه من أعضائه لأداء الصلاة ثم يعود إلى مرابط الاجتماع اليساري!!!. ومما سمعته أذناي في إفادات وأنس المقابلات الإعلامية، أن رئيس الحزب الشيوعي السوداني الراحل/إبراهيم نقد، ذهب مع أحد أقطاب الحزب – أيام العز – لتقديم واجب عزاء لمتوفى. فأوعز إليه إلى تقديم كلمة مواساة لأسرة المتوفى. الرجل أخذته سجيته الحزبية، وولج من حيث لا يدري إلى حلبة الترويج للفكر الشيوعي، متناولا أهداف الحزب ومبادئه إلى آخر ما يخطر ببال رجل يساري مهموم، وجد أمة مستمعة من شدة ألم الحزن أمامه.
هنا تدخلتْ الفطرة السودانية، عند زعيم الحزب (إبراهيم نقد)، فخط في قصاصة كلمات مفادها (ياراجل أتق الله، نحن في مجلس عزاء، ولسنا في ندوة سياسية) أو كما كتب، ورماها أمام المتحدث اليساري الذي أخذته نزوة الفكرة وشهوة الترويج؛ ليخرج عن طوره. تلك واحدة من سمات القائد المنتمي إلى فطرة الفكرة السودانية، وليس (السودانوية) كما يحلو لهوى الفكر اليساري حديثي النظرة. الفطرة السودانية، لا تشوبها شائبة الدهماء العجمى، مهما تغلفت بمسوحات المساحيق الوافدة، شرقية كانت أم غربية. هذه هدية للقراي ونطيحته.
الشاهد أن البون شاسع بين عنجهية (القراي) المنتمِي لفكر أحادي المنشأ والمنْبِتْ، لم يتخط حدود السودان بعد، وصاحب النهج (الجمهوري) على قيد الحياة. المنهج الذي يحاول البعض نفخ الروح فيه لبعثه من جديد، ودونه خرق القتاد، هذا فضلا عن تفرق كتابه وحواريه أيدي سبأ بين الأمصار والأقطار، وبين (نقد) المنتمي لفكر اقتصادي سياسي عالمي، شكل أحد القطبين الرئيسيين الذين قادا أيديولوجيا عالمية، وسارت على طريقه دول وشعوب حينا من الدهر!! حتى طغتْ وبغتْ الرؤية الرأسمالية المصطرعة. والأمثلة من هذه الشاكلة كثيرة.
وليس عجبا في مجموعة (قحط) سفور وتصدي وتلهي المدير المعزول كرها لا طوعا، تحت ضغط الجماهير المسلمة، وإنْ لانَ ولهَى)، دولةُ رئيس الوزراء، في تعاطيه مع فضيحة (الاستقالة) وإعلان رفض قبولها، تنفيذا لوثيقة ثورية، تخطفها سودانيون من حملة الجوازات الأجنبية الوافدة. رَفضُ (حمدوك) للاستقالة، كأنه يقول لصاحبه، لا تحزن إنَّ الثورة معنا، وأننا قد (تمكنا) بعد أن أزلنا (التمكين)، وأن مناهجك المستحدثه، المجمدة لحاجة في نفس (قحط)، سيحين قطافها، عندما يغط (فلول النظام البائد) في نوم عميق، أو تنمحي (قوى الهوس الديني)، أو ينقض عن ركائبه (التطرف الأعمى)، على حد زعم المدير المستقيل في عباراته الوارده بين قوسين أعلاه!!
ولأن السودان، حكومة وشعبا، يموج بين رحى (الشعارات) التي تردد صداها في القرى والحضر، وبين القيم الدينة والفطرة السودانية، ذات القيم الأخلاقية العالية النبيلة، وإن كان قد أصابها، الكثير من التراجع، في زمن الفوضى السياسية لأكثر من ثلاث عقود، ولأن السواد الأعظم والطيف الذي حكم البلاد والعباد، قد زهدوا عن قيادة سفينة ثورة لا ربان ولا صاحب لها، وفي جنح الليل البهيم، قد يأتي غير صالح، ويخرق السفينة المضطربة، فلا فوت إذا، أن يتم ترقيع المرقع في المناهج، وتطييب خاطر المكسور خلقا وأخلاقا، ذاك الذي ركبه الغي بعد أن أضلته الغواية، وأزبد وأرغى، وقال لقومه من حكومة (قحط) إحدى الشرين إما (أنا ومنهجي) أو (الانصراف)!!! أحسب أن فرض إرادة أحادية قهرية، على رغبة ملايين من الأمة الاسلامية، أقرب إلى المستحيل، إلا إذا ولج الملايين من أمة السودان المؤمنة، في سم الخياط.
وليس آخرا، الهمس في صدور الصامدين في الداخل (إرتريا والسودان) تحديدا، وكل بلاد الغلابة والمظلومين، لا تصدقوا كل ما يقوله القادمون إليكم من الخارج، مـحـِّصُوا ما في أقولهم وبياناتهم السابقة؛ لأن الذي سيتفوه به هؤلاء و هؤلاء، بعد انقضاض سامري الحكم البائد أو السائد، غير ما كانوا يفعلون. أغلبهم يقولون في أفواههم ما ليس في قلوبهم. وما أن يقول الشعب في الدخل كلمته الفاصلة، سرعان ما سيركب الكرزانييون (حامد كرزاي)، أول طائرة متجهة إلى أوطانهم الاختيارية أو الاجبارية!! هناك سيعقدون مؤتمراتهم البكائية؛ ليلعنوا أصحاب السبت أو الجمعة أو اليوم الذي، قامت فيه ثورة الشعب المطحون الحقيقية الصادقة، ورمت بهم إلى عواهن اللجوء أو الشتات من جديد.
وأيا كان الأمر، سواء انصرف (القراي) ومنهجه، أم فرض على صدور المؤمنين عنوة وقهرا. يكفي أن معركة (المنهج)، شكلت امتحانا قدريا لحكومة (قحط)، فرضت علينا متابعة الحدث بعيون أقرب إلى السعادة، لأنها كشفت (المستور) في المجموعة (المتشاكسة)، المكشوفة (للقراي والموقراي) من الشعب السوداني العظيم. لذا كان العنوان أعلاه، اقتباسا من أحشاء أغنية (تاني ريدة) للاستاذ عبد الكريم الكابلي، متعه الله بالصحة والعافية، لأن في المدلهمات، تتجه الأقلام إلى مكامن القلوب والعقول. والكابلي كان واحدا ممن زينوا عقولنا بالفن والحياة والجمال.